Author

تمكين اقتصاد المدن بتنافسية

|

يعد موضوع اقتصادات المدن من أهم موضوعات التحولات الاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم، وهذا التوجه يتعلق بفهم حركة الشعوب والهجرة عموما، وقد نشأت أسئلة متنوعة وملحة عن هذا السلوك الإنساني، وكيف يمكن تسخيره من أجل النهضة والتنمية الشاملة، ونجحت دول مثل الصين والبرازيل وكذلك ماليزيا في استخدام هذا التوجه من أجل بناء كتل اقتصادية وتجمعات صناعية حول مدن معينة، لصنع ازدهار مناطقي تم دمجه لاحقا في الاقتصاد الكلي لبناء منظومة متكاملة، وهذا الأمر يقوم على مبدأ غريب نوعا ما، وهو أنه لا توجد ميزة أو عيوب أبدية في المواقع الجغرافية، ذلك أن الإنسان قادر بشكل ما من خلال توظيفه الصحيح لرأس المال والتكنولوجيا، على بناء وإعادة بناء اقتصاد المدن.
وأثبتت الدراسات أن هناك نوعين رئيسين من السلع والخدمات فيما يتعلق باقتصاد المدن، النوع الأول هو السلع والخدمات مثل السلع اليومية من متاجر البقالة، والنوع الآخر هو سلع وخدمات متقدمة مثل الأجهزة المتطورة التي تتطلب متاجر مختصة، ولاحظ الباحثون في اقتصاد المدن أن الناس على استعداد للتنقل مسافات مختلفة تباعا لاختلاف نوعية السلع والخدمات، وهذا يؤدي إلى إنشاء مراكز حضرية بأحجام مختلفة، فظاهرة التنوع بين المدن والسلع يحددها نوع وشكل الطلب في كل مدينة ومركز حضري، وهذا يقودنا إلى مسألة أكثر تعقيدا بشأن فكرة المزايا النسبية لأي مدينة أو منطقة، فالخبرة الإنسانية التي أنشأت مدنا كبرى وتجمعات وتكتلات صناعية، تشير إلى أن هذا السلوك يمكن ترشيده من خلال خطط اقتصادية واضحة مع توفير رأس المال والتكنولوجيا المناسبة.
في هذا الإطار التفسيري للسلوك الاقتصادي للمدن وأهميته في بناء الاقتصاد الكلي، أكد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، في لقاءات حوارية، أهمية اقتصاد المدن الكبرى، وتحدث في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار الذي عقد في الرياض 2021، أن الاقتصادات العالمية ليست قائمة على الدول بل قائمة على المدن، و85 في المائة من اقتصاد العالم يأتي من المدن، وخلال الأعوام المقبلة سيأتي 95 في المائة من اقتصادات العالم من المدن، وأعلن حينها أن استراتيجية الرياض ستكون طموحة تستهدف أن تكون من أكبر عشرة اقتصادات مدن في العالم، وتأتي هي اليوم كمدينة ضمن أكبر 40 اقتصادا في العالم. لكن هذا الحديث الواضح المبني على فهم دقيق لدور اقتصاد المدن في بنية الاقتصاد الوطني، لم يكن يعني أن المدن الأخرى لن يكون لها نصيب من التخطيط الاقتصادي، فالمسألة تقوم على فكرة الأدوار الاقتصادية والمتكاملة، وكما أشرنا، فإن دراسة سلوك الناس وحركة التنقل الحضري تفسر التقسيم المناسب لتوزيع رأس المال والتكنولوجيا بين المدن المختلفة، في هذا المسار تم تبني استراتيجيات عدة لعدد من المدن بخلاف الرياض، حيث وضعت استراتيجية لمدينة ذالاين والمدن المشاركة معها في مشروع نيوم من أجل بناء مجتمع وتجمع اقتصادي صناعي لأغراض صناعية محددة ومعلنة، وكذلك في جدة والمدينة المنورة، وأعلنت خطط منطقة عسير تحت عنوان "قمم وشيم"، ولأن التخطيط السليم تكون سياقاته متوقعة، فقد أعلن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة، أمس، إطلاق شركة "داون تاون السعودية"، التي تهدف إلى إنشاء وتطوير مراكز حضرية ووجهات متعددة ومتنوعة في أنحاء المملكة، وستعمل شركة "داون تاون السعودية" على تطوير أكثر من عشرة ملايين متر مربع من خلال إطلاق مشاريعها في 12 مدينة وهي: المدينة المنورة، الخبر، الأحساء، بريدة، نجران، جيزان، حائل، الباحة، عرعر، الطائف، دومة الجندل، وتبوك. وبشكل واضح فإن صندوق الاستثمارات العامة يسعى إلى إنتاج اقتصاد حضري في هذه المدن، لتعزيز الحركة التجارية والاستثمارية ويعزز الأثر الإيجابي في الاقتصاد المحلي لها.
نجد إذن أن الاتساق الاقتصادي واضح المعالم، فالمشاريع الموجودة في مدن مثل الرياض ونيوم ومشاريع البحر الأحمر تقوم على بناء تجمعات اقتصادية، يسعى الناس إلى الوصول إليها حتى لو كانت بعيدة عن مناطق معيشتهم، ما يعزز الطلب الكلي على الخدمات غير المباشرة مثل، النقل والسفر، لكن يبقى اقتصاد المدن له وجه آخر من خلال ضرورة توفير سلع وخدمات مهمة في مناطق السكن المعتادة للناس، وهذه الخدمات من الصعب التنقل مسافات طويلة من أجل توفيرها، كما أن هذه الأنواع من السلع والخدمات تسهم في توفير فرص جديدة لشركات القطاع الخاص، واستحداث أخرى للعمل لأبناء المناطق، وبقاء هذه المدن دونما مشاريع مستقبلية واضحة ومرسومة بدقة، قد يحدث خللا في فهم وتصور الخطط السعودية بشأن دور المدن الكبرى والمدن الأقل حجما، ولهذا أتى إعلان إطلاق شركة "داون تاون السعودية" امتدادا وتأكيدا على الجهود الحثيثة لتطوير جميع المناطق، وبما ينسجم مع ما تتمتع به كل منطقة، إيمانا بالدور الفاعل الذي تقوم به اقتصادات المدن في دعم وتعزيز الاقتصاد الوطني.

إنشرها