Author

السيطرة المهنية مدخل للرضا والإنجاز

|

تختلف درجات التزام الأفراد بمساراتهم المهنية، هناك من يرى نفسه مختصا ملتزما وثابتا في مساره، وربما قضى كامل حياته المهنية في خط واحد لا يحيد عنه، وهناك من يعيش في الفوضى والاضطراب مستمتعا أو متجاهلا. يقصد بالسيطرة المهنية التمكن من القدرات والمهارات معرفة وممارسة بما يشمل الدراية الذاتية والمرونة والثقة لتطبيق ذلك باختلاف المواقف. ولا شك أن الوصول إلى السيطرة المهنية ليس بالأمر السهل وقد يتطلب أعواما من الإعداد والمثابرة، لكنه كذلك ليس بالأمر المستحيل بل هو واجب على كل من يعمل على بنائه المهني بشكل جدي ومتوقع من كل من يدعي المهنية. السيطرة المهنية هي مرحلة متقدمة من الالتزام المهني، والالتزام المهني مبني على الاختيارات المهنية وتوافق المجهود المبذول مع هذه الاختيارات.
نشهد اليوم تطورا كبيرا في جموع الشباب ودرجة اعتبارهم الأبعاد المهنية التي يوثقون بها مستقبلهم وحياتهم. في السابق كانت رؤية المهني المختص الناجح فرصة نادرة نتحدث عنها بفخر وإعجاب، واليوم نقترب من تحقيق علامات جيدة في الكم والنوع من هذا النوع من السمات الفردية الإنتاجية، التي توائم وتزامن التطورات المحلية بشكل جيد. لكن، لا يزال هناك كثير من الفرص المتاحة لتحسين فهمنا لهذه الأبعاد وتحسين النتائج المرتبطة بذلك.
قد ننظر إلى الأمر بنوعين مختلفين من التحديات، الأول مرتبط بمن لم يثبت نفسه بعد على مسار مهني واضح ومحدد. والثاني، من وصل إلى مرحلة الاختيار المهني وربما استثمر كثيرا في ذلك، لكنه يحدد على نفسه خيارات قليلة من مساعي التميز بسبب تحديد نطاقه وفرص نموه بشكل ضيق جدا. لذلك سأستعرض بعض الأمثلة التي تشرح هاتين المجموعتين من التحديات بشكل واضح ومباشر. ونبدأ بمن لم يثبت نفسه على مسار مهني واضح ومحدد. هنا نحن لا نتحدث عن اختيار التخصص، فهناك عدد غير قليل من خريجي المحاسبة الذين لا ينظر إليهم كمحاسبين، وربما هم أنفسهم لا يرون أنفسهم محاسبين، ومثل هؤلاء تجدهم في معظم التخصصات من القانون والبرمجيات وعلوم الاجتماع حتى الطب. وذلك لأن اختيار مسار مهني محدد يحدث أولا باختيار التخصص ثم بناء المهارة اللازمة، إضافة إلى الارتباط بالمجتمع المهني الخاص بهذه المهني، وهذا كله لا يكتمل إلا بممارسة ساعات ليست قليلة في هذه المهنة وربما تصديق ذلك بشهادات الممارسة اللازمة. كل هذه التفاصيل لا تعكس السيطرة بالضرورة، فالسيطرة تتبع ذلك بالتعمق في المجال ومعرفة حالات الممارسات المتنوعة والاهتمام الخاص بجوانب معينة تكسب الثقة، وقد لا يخفى على البعض قاعدة العشرة آلاف ساعة التي ذكرها الكاتب مالكوم جلادويل في كتابه الشهير الاستثنائيون التي تعد تمثيلا جيدا لما يتطلبه الوصول إلى مستوى السيطرة في أي فن ومجال، "القاعدة لا تعمم بالضرورة على كل المهن لكنها تقريب جيد لفهم الموضوع". الخلاصة هنا أن اختيار التخصص لا يعني اختيار المهنة والالتزام بها، واختيار المهنة لا يعني السيطرة عليها، فهذه درجات تتطلب التخطيط والتنفيذ.
عندما يتجاوز الفرد مسألة البناء المهني وينتقل إلى مسعى السيطرة المهنية للتعظيم من فرص نجاحه، قد يتفاجأ بأنه يخسر كثيرا لاستمراره في مسعاه وهذا ما لم يكن في الحسبان. وهنا أنا أتحدث عمن يتردد في تغيير مجاله المهني أو الانحراف المدروس بعض الشيء. أحد الأمثلة الجيدة هو ما يحدث عند المهندسين الذي يمتلكون عددا لا يستهان به من المهارات الأساسية الخاصة بهم، لكن عند تخرجهم أو عملهم تجدهم في تخصص فرعي محدد بصبغة محددة، ويعتقد بعض هؤلاء أن الكون في منظوره محصور في هذه الصبغة. بينما واقع الحياة العملية يقول إن العقلية الهندسية إضافة جيدة لباقة مهارات الشخص، لكن الاهتمام المهني والتطبيق والممارسة فيها درجة كبيرة من المرونة. ليس بالضرورة أن يستمر المهندس الكيميائي مناضلا للهندسة الكيمائية طوال حياته، وليس بالضرورة أن يعمل مهندس الجودة في مسارات تصميم وتخطيط ومتابعة أعمال الجودة الهندسية طوال حياته. الحياة المهنية طويلة نسبيا وقد تتجاوز على الأرجح ثلاثة عقود، وهذه فترة كافية للمرور بذروة أو خمول مجال ما ثم تجاوزها. لهذا، فن الانتفال من مسار مهني إلى آخر وربما تغيير منطقة البحث عن السيطرة المهنية خيارة ضروري جدا للتعظيم من فرص النجاح.
ينتقل المهني الناجح بسبب السيطرة المهنية إلى مستوى مختلف من الثقة والوعي بالذات، وهذا محفز مهم لكيفية نظره إلى نفسه في سياقه المهني ومعرفة أفضل كيفية للتموضع في محيطه. لهذا، تجد مثل هؤلاء يجيدون التفاعل مع مجتمعهم المهني وربما ينقلون قيمتهم المهنية إلى فئات أخرى من المجتمع، حيث يجيدون الاستفادة من التفاعل الاجتماعي بالاستناد إلى سيطرتهم المهنية. وهم كذلك أقرب للاندماج والإنجاز وصنع القيمة في أماكن عملهم من غيرهم. وهذا دون أدنى شك مدخل جيد لتحقيق الرضا الذاتي. ولأن هذا الأمر مهارة في حد ذاته نرى أخيرا من يتقن ذلك فيتنقل بين بعض المجالات المهنية ويحقق السيطرة في أكثر من مجال.

إنشرها