أزمة بلا حلول .. ولا بدائل

يخشى العالم أجمع استمرار الحرب في أوكرانيا، خصوصا في ظل غياب أي مبادرات ذات قيمة تؤدي إلى وقف هذه الحرب المستمرة منذ شباط (فبراير) الماضي. ومع اندلاع هذه الحرب واشتداد المعارك على الأراضي الأوكرانية، قفزت أسعار الحبوب العالمية على الفور، إلى جانب طبعا الارتفاعات السريعة والمفاجئة في أسعار الطاقة، حيث تمثل روسيا خصوصا، مصدرا كبيرا لإنتاج وتصدير الطاقة بأنواعها، بما في ذلك الفحم الحجري. وتمثل الحرب الروسية - الأوكرانية أزمة ثلاثية الأبعاد باعتبارها أثرت في الغذاء والطاقة والموارد المالية للدول محل الصراع.
وإذا كانت أسعار الطاقة المرتفعة رفعت معها معدلات التضخم، وزادت من حجم الضغوط المعيشية على الدول المستوردة لها، فإن ارتفاع أسعار الحبوب، أدى بالفعل إلى زيادة المخاطر على صعيد الغذاء عموما، على اعتبار أن كلا من روسيا وأوكرانيا تصدران نحو 29 في المائة من إمدادات القمح العالمية.
ومع بداية الحرب الروسية - الأوكرانية، ارتفعت على الفور أسعار الحبوب 5 في المائة، ثم عادت وارتفعت بعد أسابيع، مع استفحال المعارك بين الطرفين، ومع الحصار الذي فرض على الموانئ الأوكرانية التي تمثل معابر لصادرات الحبوب وغيرها. بل حتى بعض الصادرات الروسية كانت قبل الحرب تمر من بعض الموانئ والطرق الأوكرانية. الخوف الآن يمكن حدوث انفجار لأزمة جوع حقيقية يتعرض لها كثير من دول العالم التي تعتمد في إمداداتها من الحبوب من هذين البلدين، في الوقت الذي تعاني فيه أيضا هذه الدول توقف أو نقص إمدادات الأسمدة الزراعية الآتية من أوكرانيا وروسيا. فهذان البلدان يتمتعان أيضا بصادرات على المستوى العالمي للأسمدة. فحتى البرازيل أعلنت رسميا أنها تواجه خطر تراجع إنتاجها الزراعي لهذا السبب، وبدأت تبحث عن بدائل.
واستنادا إلى التطورات الراهنة للحرب، يأتي توقع أكثر من جهة، بما في ذلك دراسة حديثة لباحثين أمريكيين ومن الأوروجواي، أن ترتفع أسعار الحبوب 7 في المائة على الأمد البعيد. وهذا أيضا متوافق مع الوقائع التي تجري على الأرض، ليس فقط من جهة الحرب، لكن من ناحية ارتفاع الطلب على الحبوب حول العالم. والمشكلة ستكون أخطر أيضا، إذا انهار الاتفاق الراهن الذي ضمن عبور صادرات الحبوب وزيوت الطعام والأسمدة. فهذا الاتفاق ليس متماسكا، وسط استفحال المواجهات على الجبهة الروسية - الأوكرانية. وأخيرا استدعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاحتياط، ما يعني تصاعدا جديدا لهذه الحرب، التي أعلن حلف شمال الأطلسي "الناتو" أنها لن تكون قصيرة.
سيبحث العالم عن حلول أخرى لدعم الإنتاج في مناطق بعيدة عن ساحات المعارك والعقوبات الغربية ضد روسيا، لكن ستستمر الصعوبات ولو جزئيا، نتيجة المرونة والتحول الإنتاجي المنخفض، أما في الأجل الطويل، فغالبا سيقتنع عديد من الدول والأقاليم بضرورة العودة إلى مصطلحات مثل الأمن الغذائي وما يتطلبه ذلك من التغاضي عن ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي، وضرورة دعم الإنتاج المحلي بكل أصناف الدعم.
ويمثل القمح الغذاء الأساس لنحو 35 في المائة من سكان العالم، وليس واضحا فيما إذا كان المصدرون الآخرون قادرين على سد الفجوة، حيث نلاحظ أن مخزونات القمح بدأت في الانخفاض في كندا ومن المتوقع أن تكون صادرات أمريكا والأرجنتين ودول أخرى محدودة، إذ ستحاول هذه الدول ضمان الإمداد المحلي، بالتالي فإن مشكلات التصدير والانخفاض المحتمل في الإنتاج ستكون لهما عواقب وخيمة على العالم ما ينذر بأزمة متفاقمة.
ومع استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية، وتفاقم أزمة القمح عالميا، يتوقع خبراء أن تؤدي تداعيات الحرب إلى أزمة غذاء قاسية نتيجة الشكوك في قدرة المزارعين الأوكرانيين على زراعة محصول القمح، إلى جانب الانخفاض الحاد في الصادرات الروسية، مقترحين ستة سيناريوهات لمواجهة الأزمة. وهي: الاعتماد على مخزون الغذاء الحالي، وتنويع الإنتاج المحلي لضمان الوصول إلى أنظمة غذاء صحية، وتخفيض التعرفة الجمركية على الواردات الغذائية، وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي لحماية الضعفاء، وإبقاء تجارة الأغذية العالمية والأسمدة مفتوحة وضرورة استمرار سلاسل التوريد في التحرك، وأخيرا تعزيز شفافية الأسواق العالمية لتوفير تقييمات موضوعية لها.
الحلول المتوافرة بالنسبة إلى الدول المستوردة للحبوب من أوكرانيا وروسيا، ليست متعددة، والأكثر واقعية أن توسع نطاق إنتاجها من الحبوب واحتياجاتها الغذائية قدر الإمكان. فحتى الهند قامت أخيرا بتقنين تصدير الأرز، ما رفع على الفور أسعار هذه المادة الغذائية الأساسية لمليارات البشر.
وإذا تمكن بعض الدول من توسيع نطاق إنتاجه من الحبوب، فإن البعض الآخر سيعاني ذلك، خصوصا إذا ما واصلت انعكاسات الحرب على صادرات الأسمدة. فهذه الأخيرة أسهمت في خفض نسبة الإنتاج الزراعي والأعلاف في عشرات الدول، ولا سيما في قارتي إفريقيا وآسيا. لكن في النهاية، الحل الوحيد للأزمة وتفادي خطر وقوع مناطق من هذا العالم في دائرة الجوع أن تتوقف الحرب، وتحترم الاتفاقيات التي يتم التوصل إليها لتأمين الإمدادات الغذائية وتأمين الحماية لها رغم كل الظروف. إنها مسألة ليست معقدة، لكنها تحتاج إلى آليات ومبادرات قوية، وإرادة لدى الأطراف المعنية بوقف المواجهات العسكرية، واللجوء إلى الحل السياسي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي