Author

سعر النفط الروسي والخطط المفروضة

|
أستاذ جامعي ـ السويد
فجاءة اختفت الأصوات التي كانت تنادي بقوة إلى فرض سقف محدد على سعر النفط الروسي لأسباب جرى تداولها كثيرا والتطرق إليها أيضا ضمن مقالنا الأسبوعي في جريدة "الاقتصادية" وكان العالم يتوقع أن قرارا مثل هذا على وشك الصدور والتنفيذ، لأنه كانت خلفه مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، التي يطلق عليها أيضا "تجمع الكبار" وتشكل الدول السبع هذه أكبر قوة اقتصادية في العالم، حيث يصل إنتاجها المحلي إلى نحو 45 في المائة من الإنتاج العالمي مع نسبة مماثلة في التجارة العالمية. وكانت هذه المجموعة حتى 2014 تضم روسيا وكان يطلق عليها "مجموعة الثماني" أو "مجموعة الدول الصناعية الثماني"، إلا أنه جرى تعليق عضوية روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم.
في عالم اليوم من النادر أن يبقى شيء على حاله لفترة طويلة. وهذا يعاكس ما كان سائدا طوال التاريخ، حيث كانت الأمور تستقر فترات طويلة، وهنا أعني قرونا وليست عقودا. الإمبراطوريات القديمة ـ أي التي تشكلت قبل مقدم العصر الصناعي الحديث ـ خير مثال. في الأغلب كان حكمها يمتد مئات من الأعوام قبل أن يبدأ نجمها بالأفول.
ما نشاهده من تطور صناعي اليوم مذهل حقا وهو يحرق المراحل، بمعنى آخر، إن برزت مرحلة أو حقبة أو مجموعة أو حتى اختراق صناعي وتكنولوجي، فإن مداه لا يثبت كثيرا حيث سرعان ما تظهر حقبة أخرى جديدة تزيحه.
العالم لم يعد بحاجة إلى قرون لكي يشهد بروز حقب تاريخية تزيح ما قبلها. التطور الصناعي والتكنولوجي يساعد العالم اليوم على التغيير من حال إلى آخر في غضون عقود، وفي بعض الحلقات في غضون أعوام معدودة، والعلم عند الله، لكن المدة الزمنية الكافية لحرق المراحل والحقب آخذة في الانحسار، وقد نصل زمنا ـ وهذا ليس بعيدا ـ تتحول الدنيا حولنا من حال إلى حال آخر في غضون أسابيع أو أيام.
ما جرني إلى تقديم هذا الطرح الذي كان خيالا في السابق بيد أنه صار واقعا، هو ما طرأ من تغيير كبير في حجم التأثير الذي كان لدى "تجمع الكبار" في فترة لا تتجاوز 30 عاما.
قبل ثلاثة عقود، كانت الدول الصناعية السبع هذه تشكل نحو 70 في المائة من حجم الاقتصاد في العالم، بينما لا تتجاوز مساهمتها اليوم 45 في المائة، وهي نسبة كبيرة، لكن إن أخذنا نسبة الهبوط في هذه الفترة في الحسبان وما نشاهده من تطور وتبدل وتغيير نتيجة للاختراقات الصناعية والتكنولوجية، فهذا مؤشر إلى مقدم عالم جديد.
لقد دشن العالم عصر الثورة الصناعية الخامسة التي يلعب فيها الذكاء الاصطناعي دورا بارزا ومعه إنترنت الأشياء والمنصات الرقمية والواقع الافتراضي المعزز وغيرها من الاختراعات التي ستحول الحياة على هذا الكوكب على عقب. والعصر الصناعي الذي نمر فيه ليس حكرا على "تجمع الكبار"، تملك ناصيته يشترك فيها هذا التجمع مع دول أخرى عديدة في مضامير محددة صارت رائدة ومتفوقة.
طروحات مثل هذه، في رأيي المتواضع، هي التي أجبرت "تجمع الكبار" على أن يركن خططه جانبا، التي قيل إنها محكمة وستلبي الغرض وهو قصم ظهر موسكو، وذلك بحرمانها من التمتع بريع نفطها بالأسعار المرتفعة السائدة في أسواق العالمية للنفط حاليا.
كان للخطة مناصرون وبقوة رغم أنها لم تلق ترحيبا واسعا في أوساط ليس المستهلكين فحسب، الذين لو طبقت لجنوا كثيرا، بل حتى المنتجين الذين خشوا أن تشكل سابقة ينتزع بوساطتها "تجمع الكبار" سلطة تحديد الأسعار من يد الدول المنتجة للنفط. وكان مناصرو الخطة يروجون لها على أن تطبيقها مهم ليس للأسباب الاقتصادية فقط، بل لكونها إجراء "أخلاقيا" لمناصرة "الضحية" "أوكرانيا" ومعاقبة "المعتدي" "روسيا".
وقدموا تبريرات أخرى، منها أن أغلب دول العالم خصوصا مشتري النفط الروسي الكبار مثل الصين والهند وتركيا سيسعدون بتطبيق خطة مثل هذه وسيدعمونها لأنهم أول المستفيدين منها.
وأكدوا أن التلويح من قبل الولايات المتحدة بفرض عقوبات على منتهكي بنود الخطة سيكون كافيا لردع أي دولة تخترق بنود الخطة وسقف السعر الذي ستفرضه.
لكن العالم تغير، وهو في خضم حقبة يحرق فيها المراحل التي تشهد ظهور تجمعات من "الكبار" الذين كانوا صغارا قبل ثلاثة عقود، لكنهم تحولوا إلى نمور اقتصادية لهم من المنعة والمكانة ما يمكنهم رفض الإملاءات من "تجمع الكبار" كما كان الشأن قبل 30 عاما. ولا أظن أننا سننتظر 30 عاما أخرى لكي نشهد عالما جديدا يتشكل أمام ناظرنا يختلف كثيرا عن العالم الذي نعيشه اليوم.
إنشرها