Author

سر التقدم المكشوف

|
بعض المؤرخين ينصب اهتمامهم على دراسة الأسباب والظروف التي توجد التفاوت بين الأمم في التقدم الحضري في أساليب الحياة، وأدواتها، وأساليب التفكير، من حيث عمق التفكير وبساطته، أو من حيث الحيل وعدم المباشرة، وعكس ذلك نرى أمما خلاف ذلك، حيث الوضوح والصدق، وتجنب المخادعة، وأساليب اللصوصية، وإن كان في ظاهر مزيف مغلف بادعاء التحضر.
علوم الاجتماع، وعلم النفس، والأنثروبولوجي، ودراسة الأديان، ومقارنتها، يسعى متخصصوها إلى كشف أسرار الثقافات والحضارات التي تسير البشر دون وعي حقيقي، لأن المكونات الثقافية أصبحت جزءا من حياتهم يمارسونها بشكل آلي رتيب.
يحمد للغرب اعتماده السعي إلى الحصول على المعرفة بشأن الشعوب الأخرى، لاكتشاف الأسس التي تقوم عليها حضارات الأمم، وإن شاب بعض الممارسات اللاموضوعية في إصدار الأحكام، إما لسوء فهم، وإما بقصد. كانت جهود المبشرين، والمستشرقين، والرحالة، أبرز ما سجله التاريخ في القرون الماضية، حيث غزوا الشرق برحلاتهم، بحجة الافتتان به، وبصحاريه، مع العلم أن هذه الرحلات مدعومة من الكنيسة.
في الوقت الراهن مع تقدم المعرفة، وتنوعها، وسعتها، تغيرت آليات الحصول عليها، فالجامعات تلعب دورا بارزا في هذه المهمة من خلال مراكز الأبحاث المهتمة بجميع مجالات المعرفة الطبيعية، والإنسانية، والمجتمعية، فالمتخصصون يوجهون بحوثهم وبحوث طلابهم الذين يشرفون عليهم لدراسة وضع المجتمعات الأخرى، لتشكل هذه المنتجات البحثية كنزا ثمينا ترجع إليه الجهات الحكومية، خاصة ذات العلاقة بصناعة القرار واتخاذه. لم يقتصر الأمر على الجامعات ومراكز أبحاثها، بل تولت الحكومات والقطاع الخاص مراكز أبحاث ذات طبيعة استراتيجية جل اهتمامها منصب على المستقبل في المناخ، والبيئة، والصناعة، والزراعة، والسلاح، والعلاقات الدولية، والطاقة، وما قد ينشأ من حروب ونزاعات، سواء كان مردها التنافس على الموارد، أو الاستقطاب، والاحتواء للشعوب، وحكومات الدول الأخرى.
باستخدام محرك جوجل وقفت على مجموعة من معاهد البحث الهندية، مثل معهد بحوث الرز، كمنتج مهم واستراتيجي، ليس للهند فقط، لكن للعالم، ومعهد أبحاث الطرق، ومعهد أبحاث الطاقة، ومعهد أبحاث التعدين، أما في أمريكا فمن معاهد البحوث الاستراتيجية معهد بحوث الإدارة الاستراتيجية، ومعهد ستانفورد للدراسات التربوية الاستراتيجية، ومركز جامعة جورج تاون للدراسات الاستراتيجية، وفي الصين معهد الأبحاث الاستراتيجية الدولية، وفي بريطانيا المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. في دراسة أجريتها على جامعة أوكلاند في نيوزيلندا، وجدت أن في الجامعة 33 مركز بحث، منها مركز أبحاث الأديان، ومركز أبحاث الماوريز، وهم السكان الأصليون، ومركز أبحاث التعدين، ومركز أبحاث الباسفيك.
عندما كنت على مقاعد الدراسة خارج البلاد، "أكسر التعب والملل" الذي أشعر به من المذاكرة المتخصصة بالبحث عن بحوث عامة، خاصة ما له علاقة بوطننا، وفي ذات يوم استوقفني عنوان أطروحة دكتوراه أنجزت في جامعة مرموقة في أمريكا، ومحاورها تربوية وثقافية واجتماعية، فطلبتها من خلال مكتبة الجامعة، وبعد ثلاثة أسابيع وصلت، لكن لم يسمح لي بإخراجها من المكتبة، فكل يوم يسلمها لي أمناء المكتبة وأعيدها إليهم، وهكذا حتى أنهيت قراءتها، وما لفت نظري أن من سبقني باستعارتها، كما يظهر على بطاقة الاستعارة المرفقة، جهة رسمية لها دور في صناعة القرار، والتهيئة له.
الدرس المستفاد من هذا أن التعامل مع الآخرين في جميع الجوانب الاقتصادية والسياسية، يبنى على معلومات دقيقة تكشف طريقة تفكير الآخر، وأولوياته، وبمعنى آخر الوقوف على جذور وآليات تشكيل العقول في المدارس، والإعلام، وداخل الأسر، وهذا لا يتحقق إلا بالبحث والدراسات المتعمقة التي تنجزها مراكز ذات دعم لجهودها.
إنشرها