Author

هل تتأثر مركزية الدولار؟

|

لم تكن مسيرة الدولار كعملة عالمية سهلة، بل واجهت تحديات كبيرة، وكان الذهب هو التعبير الوحيد عن الثروة في العالم، ولا يزال يعمل كذلك، لكن خطة مارشال التي انطلقت بعد الحرب العالمية الثانية من أجل إعادة إعمار أوروبا التي طحنتها الحرب، كانت تلك الخطة تستند إلى قدرة الولايات المتحدة على ضخ أكثر من 12 مليار دولار في الدول المتضررة، ولا سيما ألمانيا، ويؤكد المؤرخون أن هذا المشروع رسخ هيمنة الرأسمالية الأمريكية على دول أوروبا.
وبعد هذه الرحلة الطويلة للدولار فإن هذا المشروع قد رسخ هيمنة الدولار على العالم أجمع، وتزامنت هذه الخطة مع اتفاقية بريتون وودز حيث أقرت الدول الموقعة على الاتفاقية آليات تحويل العملات الأساسية إلى الذهب ومن بينها تحويل الدولار إلى ذهب من خلال نظام لأسعار الصرف، فالوصول إلى المساعدات والأجهزة والمعدات يتطلب أولا الوصول إلى الدولار، الذي يتطلب التسعير بالذهب، لقد كان النظام العالمي الجديد الذي نشأ على أنقاض الحرب العالمية الثانية يعتمد بشكل كامل على دعم الولايات المتحدة وقوة اقتصادها، وعندما دخلت الولايات المتحدة الحرب في فيتنام تم إغراق العالم بالدولار ومع التقلبات الاقتصادية كان العالم يسارع إلى تحويل الدولار للذهب، ما يثقل كاهل الولايات المتحدة التي كانت تطبع أكثر مما توافر لديها فعليا، وفي آب (أغسطس) 1971 تمت الموافقة على سلسلة من التدابير الاقتصادية، أهمها كان إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب، فيما وصف لاحقا هذا القرار بصدمة نيكسون، ولم يكن أمام دول العالم من آلية للضغط على الولايات المتحدة لتغيير هذا القرار، وكذلك لم يكن في العالم أجمع من لديه كميات كافية من الذهب لتعويض العالم عن الذهب الأمريكي، ولم تكن هناك تجارة عالمية إلا مع الولايات المتحدة، ورغم بزوغ فجر الصناعة الألمانية اليابانية، إلا أنها كانت ترى الاقتصاد الأمريكي أكبر سوق متاحة، لذلك رضخ العالم لهذه الاختيارات وأصبح الدولار احتياطيا عالميا وتعبيرا عن ثروة الدول، وقد دعمت السياسات الأمريكية هذه المكانة للدولار من حيث ضمان سعر فائدة مناسب، وعوائد مضمونة وقبول عالمي واسع النطاق، ولم يتزحزح الدولار عن عرشه حتى اليوم، لكن العالم بدأ يتململ من وجود عملة واحدة مركزية، فالتضخم الذي أصاب الولايات المتحدة كان ينتقل بسهولة إلى العالم بسبب سياسات رفع الفائدة التي تستطيع بها الولايات المتحدة تجريد أي دولة من احتياطاتها الأجنبية إذا لم تقم برفع الفائدة كما رفعها الفيدرالي الأمريكي لو كان في ذلك ضرر فادح على اقتصادها، كما أن سياسة أمريكا بتجميد الأموال عند حصول خلاف سياسي مع أي دولة في العالم جعل عديدا من الدول المهمة اقتصاديا، خاصة روسيا والصين، تعمل على البحث عن عملات بديلة سواء لاستخدامها في المبادلات التجارية أو تكوين احتياطيات النقد الأجنبي لديها.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فالدولار حصل علـى عرشه في مقابل معونات عالمية كبيرة قامت بها الولايات المتحدة طوال عقود، وفي مقابل اقتصاد ضخم قادر على امتصاص أي صدمات مهما كانت، وقادر على معالجة نفسه بنفسه وتحمل تحرير سعر الصرف، كما أن العوائد التي تدفعها الحكومة الأمريكية على سنداتها خالية تماما من المخاطر، ولا توجد عملة في العالم لها هذا الوضع، فالعوائد ستدفع في وقتها مهما كانت الظروف، ومهما كان شكل الحكومة، كما لا توجد معوقات للدخول إلى الاقتصاد الأمريكي، وعلى أي عملة في العالم تريد منافسة الدولار أن تحقق كل هذه المزايا أولا، سياسيا واقتصاديا، حتى الآن لا يلوح في الأفق مثل ذلك، ورغم ما قاله الرئيس الروسي خلال اجتماع لدول "بريكس" الذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، عن إيجاد عملة للاحتياطي الدولي على أساس سلة عملات هذه الدول، إلا أن المشكلة في هذا التوجه أن الرغبات السياسية وحدها لا تكفي لإقناع العالم والمستثمرين، وأن عملات دول بريكس ضعيفة، فالروبل الروسي في حالة تدهور وجنوب إفريقيا تمضي عكس التيار، والبرازيل لا يمكن التعويل عليها كثيرا، والهند غير مستعدة للقيادة المالية أو الاقتصادية على الصعيد الدولي، فلم يبق من هذه السلة إلا اليوان الصيني الذي تصدى لمواجهة الدولار العملة الأمريكية الخضراء، وهنا بعض التفاؤل بشأنها طالما أن استخدام عملة اليوان يتزايد في العالم فهي خامس أنشط العملات في العالم، لكن المشكلة تكمن في السياسات الاقتصادية الصينية التي لا تسمح بالتحويل الحر لليوان إلى العملات الأخرى، رغم تعهد الصين بتحرير العملة المحلية في نهاية القرن الماضي إلا أنها لم تفعل، كما أن الصين تحت حكم الحزب الواحد الذي يعتمد في سياساته النقدية على توافر النقد الرخيص للمؤسسات والبنوك العامة، الذي يعني خفض البنك المركزي الصيني لأسعار الفائدة على الودائع بشدة، وهو ما يصرف العالم عن الاستثمار في الأدوات المالية المرتبطة بهذه العملة، ويسعى أصحاب السيولة النقدية في الصين حاليا إلى إخراج أموالهم من النظام المصرفي الصيني في كل فرصة سانحة.
في القرن الـ 21، يعد اليوان "أو الرنمينبي" من أكثر العملات تداولا، وكل شيء يشير إلى أنها ستصبح عاجلا أم آجلا ضمن المجموعة الحصرية لأهم العملات الدولية ذات الثقل. وفي هذه الأجواء ظلت عملة اليوان تنمو في صمت على المستوى العالمي ويستمر الاستثمار في التدفق بثبات، بدأ النظام النقدي الدولي الذي يهيمن عليه الدولار يشهد تغيرات. ومن هنا ظهرت قيمة اليوان بأنها عملة لا يستهان بها، حيث باتت تلعب بشكل متزايد دورا مهما على الساحة الدولية مؤثرة بشكل غير مباشر في هيمنة الدولار. ونتيجة لذلك بات المستثمرون الآن يبدون اهتماما أكثر بهذه العملة، حيث أخذت الدولة الآسيوية بزمام المبادرة في التعافي من الوباء واقتصادها هو الاقتصاد الرئيس الوحيد في العالم الذي حقق نموا إيجابيا في 2020. ويمكن أن يستمر الأداء القوي للعملة الصينية حتى نهاية 2022، حتى مع معاناة الاقتصاد الصيني موجة التضخم، وتسببت أزمة الطاقة في إغلاق عدد كبير من المصانع، وتباطؤ كبير في العقارات، إضافة إلى الحملة التنظيمية المستمرة التي تستهدف القطاع الخاص.
ويراهن المتفائلون على ارتفاع اليوان على ازدياد قوة العملة بدعم من مؤشرات على تخفيف "البنك المركزي الصيني" القيود التي تحد من التيسير النقدي. يدفع الاختلاف في السياسة النقدية للمركزي الصيني مع "الاحتياطي الفيدرالي"، الذي أشار إلى رفع الفائدة بداية من مارس إلى توقع عديد من البنوك اتجاها صعوديا للأصول المالية في الأسواق الصينية. مما سبق فإن الحقيقة الراهنة تبدو كأن العالم في فخ الدولار، الذي يفقد جاذبيته كمخزن للقيمة، مع وصول إجمالي الدين العام الأمريكي إلى 30.64 تريليون دولار، فلا أحد يريد الاحتفاظ بثروته في صورة عملة تتراجع قيمتها باستمرار. والذهب لم يعد قادرا على لعب هذا الدور الصعب، وفي ظل هذه الأحداث الاقتصادية العاصفة ظهر اليوان الصيني منتعشا بظروفه الخاصة، كما أنه في الوقت نفسه هناك عملات كثيرة ستصبح في مهب الريح تماما، وتبدو الأمور غامضة في المستقبل نوعا ما فالتجربة جديدة على الجميع.

إنشرها