سريلانكا .. إعادة بناء اقتصاد منهار

سريلانكا .. إعادة بناء اقتصاد منهار
سريلانكا .. إعادة بناء اقتصاد منهار

على مدار قسم كبير من عقدين من الزمن تقريبا، أدار الأخوة راجاباكسا الأربعة وأبناؤهم سريلانكا على أنها شركة عائلية تفتقر إلى النظام. من خلال مشاريعهم الإنشائية الضخمة وطرقهم المسرفة، كبلوا سريلانكا بديون غير قابلة للاستدامة، ما دفع البلد إلى أسوأ أزمة اقتصادية منذ الاستقلال. وفقا لما يرصده تقرير براهما تشيلاني أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات ومقره نيودلهي وهو مؤلف كتاب المياه والسلام والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية "Rowman & Littlefield، 2013".
لعب ماهيندا راجاباكسا دورا بالغ الأهمية في تأسيس سلالة راجاباكسا الحاكمة. فبعد أن أصبح رئيسا عام 2005 حكم بقبضة من حديد لعشرة أعوام، فهاجم الحريات المدنية، وعمل على توسيع السلطات الرئاسية "بما في ذلك إلغاء حدود مدة الولاية"، وانطلق يعقد الصفقات السيئة واحدة تلو الأخرى مع الصين. وطوال هذه العملية كان حريصا على إبقاء أفراد أسرته بالقرب منه، وأعطى منصب وزير الدفاع لشقيقه الأصغر جوتابايا.
لكن عام 2015، خسر ماهيندا الانتخابات الرئاسية بفارق ضئيل وأبعدت أسرة راجاباكسا عن السلطة فترة وجيزة. خلال تلك الفترة، أعاد البرلمان الحد الأقصى لفترة الولاية الرئاسية، وبهذا استبعد أي احتمال لحصول ماهيندا على فترة ولاية أخرى. مع ذلك، سرعان ما ابتكرت الأسرة خطة لاستعادة حكمها: سيتخلى جوتابايا عن جنسيته الأمريكية ويترشح لمنصب الرئاسة.
كان جوتابايا في وضع يسمح له بالفوز بارتياح. فقد كان وزيرا للدفاع عام 2009 عندما أمر ماهيندا بآخر هجوم عسكري ضد متمردي نمور التاميل، ما وضع نهاية حاسمة للحرب الأهلية الوحشية التي دامت 26 عاما. بذلك، ظهر الأخوان راجاباكسا بمظهر الأبطال بين الأغلبية السنهالية في سريلانكا.
من المؤكد أن الهجوم الأخير أسفر عن مقتل ما يصل إلى 40 ألف مدني وأشعل شرارة اتهامات دولية بارتكاب جرائم حرب. وصفت الأمم المتحدة الهجوم بأنه "اعتداء خطير على نظام القانون الدولي برمته". وفقا للقائد العسكري في زمن الحرب سارات فونسيكا أمر جوتابايا بإعدام قادة المتمردين المستسلمين بعد محاكمات موجزة. في ولاية كاليفورنيا الأمريكية حيث كان يقيم في السابق، يواجه جوتابايا اتهامات مدنية بشأن جرائم حرب مزعومة.
لكن الأخوان راجاباكسا قدما أنفسهما ببساطة على أنهما وصيان صارمان على المصالح السنهالية. وبفضل مؤهلاته العرقية القومية إلى حد كبير فاز جوتابايا في انتخابات 2019، فسارع إلى تعيين ماهيندا رئيسا للوزراء. ثم عين ماهيندا ولديه وشقيقيه الآخرين، وابن أخيه كوزراء أو في مناصب حكومية أخرى.
في العام ذاته قتل نحو 277 شخصا وأصيب مئات آخرون في تفجيرات نفذها متطرفون أحد عيد الفصح. سلط الهجوم الضوء على التوترات التي كانت تختمر منذ عام 2009: فرغم أن الهجوم العسكري نجح في تهميش التاميل وأغلبهم من الهندوس، فإن نهاية الحرب غرست بذور الصراع الديني بين الأغلبية السنهالية البوذية والمسلمين في سريلانكا، الذين يشكلون عشر السكان. ووفرت تفجيرات أحد الفصح الإرهابية ذخيرة جديدة لأسرة راجاباكسا لإثارة النعرة القومية السنهالية.
إلى جانب تعميق خطوط الصدع العرقية والدينية، سار جوتابايا على خطا شقيقه في تأسيس حكم رئاسي إمبراطوري تمثل في إقرار تعديل دستوري عام 2020 يقضي بتوسيع سلطة الرئيس في حل المجلس التشريعي. وساعد على دفع سريلانكا لمسافة أبعد داخل دوامة الموت الاقتصادي التي ساعد شقيقه على إيجادها خاصة من خلال صفقاته مع الصين.
أثناء حكم ماهيندا عندما كانت تحمي آل راجاباكسا من الاتهامات بارتكاب جرائم حرب في الأمم المتحدة، فازت الصين بعقود كبرى لتنفيذ مشاريع البنية الأساسية في سريلانكا وأصبحت المقرض الرئيس لها. تراكمت الديون المستحقة للصين التي تكبدتها سريلانكا إلى حد كبير لبناء معالم تذكارية لأسرة راجاباكسا في موطنها في منطقة هامبانتوتا.
تشمل الأمثلة المطار الأكثر فراغا في العالم، وملعب الكريكيت الذي يضم عددا من المقاعد أكثر من عدد سكان عاصمة المنطقة، وميناء بحريا بلغت تكلفته 1.4 مليار دولار ظل خاملا إلى حد كبير إلى أن تنازلت عنه سريلانكا للصين عام 2017 بموجب عقد إيجار مدته 99 عاما. أكثر المشاريع التي تدعمها الصين إسرافا هو مدينة بورت سيتي التي يجري بناؤها بتكلفة 13 مليار دولار على أرض مستصلحة من البحر بالقرب من وسط العاصمة كولومبو.
تتلخص طريقة العمل التي تتبعها الصين في إبرام الصفقات مع رجال أقوياء واستغلال نقاط الضعف التي تعيب دولهم لكسب موطئ قدم استراتيجي. أكبر أهداف الصين في سريلانكا عام 2014 عندما قامت غواصتان صينيتان بزيارات منفصلة غير معلن عنها إلى كولومبو، حيث رستا في محطة حاويات بنيت حديثا وتملكها إلى حد كبير شركات حكومية صينية.
بهذا اكتسبت الصين قدرا كبيرا من النفوذ على بلد يقع بالقرب من ممرات الشحن الأكثر أهمية في العالم، وأصبحت سريلانكا غارقة على نحو متزايد في الديون، بما في ذلك الديون المستترة المستحقة للصين من القروض التي كان الإفصاح عنها لعامة الناس محظورا بموجب شروطها. لكن الغطرسة منعت آل راجاباكسا من إدراك الأزمة التي تلوح في الأفق. على العكس من ذلك، استن آل راجاباكسا خفضا ضريبيا شاملا عام 2019 الذي تسبب في محو ثلث إيرادات سريلانكا الضريبية.
ثم اندلعت الجائحة التي سحقت السياحة وصناعة الملابس، وهما المصدران الرئيسان للعملة الأجنبية في سريلانكا. ثم في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، ساعدت الحرب الدائرة في أوكرانيا، من خلال تحفيز ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء الدولية إلى عنان السماء في استنزاف احتياطيات سريلانكا من النقد الأجنبي، ما أدى إلى عجز في الوقود والغذاء والدواء والكهرباء. كانت القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى كثيرين من أهل سريلانكا الذين خرجوا للشوارع بأعداد ضخمة لإعلان احتجاجهم.
في التاسع من (مايو) أيار، استقال ماهيندا على مضض من منصبه كرئيس للوزراء، في محاولة لاسترضاء المحتجين. لكن الاحتجاجات استمرت بلا هوادة، وبلغت ذروتها باقتحام المتظاهرين القصر الرئاسي الساحلي. وفر جوتابايا قبل دقائق من إعلان قراره بالاستقالة.
داخل سريلانكا أصبحت صور المتظاهرين يسترخون على فراش الرئيس ويطبخون في الفناء الخلفي لمنزلة رمزا لسلطة الشعب. لا يخلو الأمر أيضا من دروس لدول أخرى مثقلة بالديون. فما لم تتخذ إجراءات عاجلة لجعل ديونها مستدامة قد تجتاحها الأزمات بسرعة.
أما عن سريلانكا، فسيكون لزاما على قادتها المقبلين أن يعالجوا نقص الضرورات الأساسية، وإعادة بناء اقتصاد منهار، وإعادة إرساء سيادة القانون، ومحاسبة أولئك الذين تسببوا في إحداث الكارثة الحالية. لكن في بلد حيث السياسة رياضة دموية، لا ينبغي للمرء أن يستخف بجسامة التحدي المتمثل في التغلب على إرث آل راجاباكسا المهلك.

الأكثر قراءة