Author

فرملة الاقتصاد لكبح التضخم

|

بعد ارتفاع معدلات التضخم العام الماضي ساد اعتقاد لدى كثير من المختصين، بأنه عابر ومدفوع بعوامل مؤقتة برزت نتيجة لجائحة كورونا، كانقطاعات سلاسل التوريد، وارتفاع تكاليف الشحن والطاقة. وبعد مرور عام تأكد أن ارتفاعات معدلات التضخم عبر العالم ليست كذلك، لكن جزءا كبيرا منها يعود للتوسع الكبير في السياسات المالية والنقدية التي طبقت للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تسببت فيها الجائحة. وأدركت البنوك المركزية العالمية الرئيسة منذ بداية العام الحالي أنها أخطأت في توقعاتها، وأن عليها تصحيح مسار السياسات النقدية التوسعية خلال مرحلتي جائحة كورونا والتعافي منها. ومنذ بداية العام الحالي بدأت البنوك المركزية العالمية، التي أهمها مجلس الاحتياطي الفيدرالي أو "البنك المركزي الأمريكي"، في رفع معدلات الفائدة. وكانت أقوى خطوة متخذة هي رفع "الفيدرالي" - في اجتماعه الأخير - معدل الفائدة الأساسية بثلاثة أرباع نقطة مئوية دفعة واحدة إلى نطاق 1.5 في المائة - 1.75 في المائة، وهي أكبر زيادة منذ 1994.
الرفع الأخير لمعدلات الفائدة الأساسية رسالة قوية للأسواق بأن "الفيدرالي" جاد في التصدي للتضخم وضرورة عودة معدلاته إلى النسبة المستهدفة والبالغة 2 في المائة. ولدى "الفيدرالي" أدوات متعددة يستطيع استخدامها للحد من التوسع النقدي الذي يعتقد أنه يقف وراء زيادة الأسعار، وأبرزها سياسات التيسير الكمي ومعدلات الفائدة. وتوقف "الفيدرالي" سابقا عن سياسات التيسير الكمي ما خفف حجم السيولة في الأسواق، وها هو يسعى لزيادة تكاليف الائتمان من خلال رفع معدلات الفائدة الأساسية. وتعبر معدلات الفائدة الأساسية عن معدلات الفائدة التي تتقضاها المصارف التجارية على القروض فيما بينها للوفاء بمتطلبات احتياطيات المصارف الرسمية، وتكون عادة قصيرة الأجل. وتحاول البنوك المركزية من خلال تغيير معدلات الفائدة الأساسية التأثير في معدلات الفائدة طويلة الأجل التي تمنحها المصارف للأفراد والشركات. وترتفع معدلات الفائدة الأخرى بعد رفع معدلات الفائدة الأساسية، وقد يستغرق مرور تأثيرها الكامل بعض الوقت.
تحاول البنوك المركزية من خلال رفع الفائدة فرملة الاقتصاد المتسارع والتأثير في الطلب الكلي للحد من سخونة الاقتصاد ومعدلات التضخم المرتفعة وإعادتها إلى المعدلات المستهدفة. وتحرص البنوك المركزية - في الوقت نفسه بقدر الإمكان - على تجنب ارتفاع معدلات البطالة وتباطؤ الاقتصاد. وترتفع عادة معدلات الفائدة التي تتقاضاها المصارف التجارية من الجمهور بعد رفع معدلات الفائدة الأساسية. وعند ارتفاع معدلات الفائدة ترتفع تكاليف تمويل الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري. وهذا يحد من قدرات الأفراد والشركات على الاستهلاك والاستثمار ويخفض حجم الطلب الكلي وبالتالي يخفف الضغوط على الأسعار. وتشير مصادر مختلفة إلى ارتفاع معدلات الفائدة على القروض العقارية في الولايات المتحدة بنحو نقطتين مئويتين خلال الفترة الأخيرة. وأدت زيادة تكاليف التمويل العقاري، إلى تباطؤ نمو المبيعات العقارية. ويتوقع تأثر باقي القطاعات الاستهلاكية بزيادة معدلات الفائدة، ما سيخفض الطلب الاستهلاكي.
تتأثر الأسواق المالية أيضا بزيادة معدلات الفائدة، حيث ترتفع تكاليف الاستثمار والتوسعات الرأسمالية، وهذا يبطئ نمو الشركات والإنتاج ويخفض بالتالي نمو العوائد المستقبلية ورؤوس الأموال. كما ترفع زيادة معدلات الفائدة تكاليف الاقتراض وتحد بذلك من إقبال المستثمرين على ضخ الأموال. لهذا تتجاوب الأسواق المالية عادة بسلبية مع زيادة معدلات الفائدة، وقد فقدت الأسواق المالية الأمريكية أخيرا بعض مكاسبها السابقة. أما أسواق السندات فتشهد تراجعا في أسعار السندات المصدرة سابقا لزيادة معدلات الفائدة، في المقابل تجذب زيادة معدلات الفائدة مزيدا من الموارد لأسواق السندات، كما ترفع المصارف عوائد الادخار، وتضطر الشركات إلى رفع العوائد على سندات اقتراضها.
نظرا لأهمية الاقتصاد الأمريكي والدولار العالمية، فإن تغيير معدلات الفائدة في الولايات المتحدة يؤثر بقوة في الاقتصاد العالمي. وترتفع معدلات صرف الدولار عادة مع زيادة معدلات الفائدة مقابل العملات الأخرى غير المثبتة مع الدولار. من جانب آخر ثبت كثير من الدول - ومن بينها المملكة - عملاتها مع الدولار، ويجبر هذا التثبيت بنوكها المركزية على ضرورة ضبط معدلات الفائدة لديها مع معدلات الفائدة الأمريكية. ولهذا اضطرت بنوك الدول المركزية المثبتة عملاتها مع الدولار على رفع معدلات الفائدة الأساسية بسرعة وبالنسبة نفسها تقريبا، وذلك لتفادي خروج الأموال إلى المحافظ الدولارية. وتفقد الدول المثبتة مع الدولار أو أي عملة أخرى حرية سياساتها النقدية، حيث تضطر إلى رفع معدلات الفائدة حين رفع الدولار، وخفضها في حالة الخفض، بغض النظر عن أوضاعها الاقتصادية.
من المتوقع أن ترتفع معدلات الفائدة الأساسية الأمريكية عند نهاية هذا العام إلى معدلات تقارب 4 في المائة. وستقود سياسات التشدد النقدي في الولايات المتحدة، إلى خفض معدلات النمو الاقتصادي الأمريكي في 2022 من 2.8 في المائة إلى 1.7 في المائة. ومن المتوقع أن تتبع معدلات الفائدة عبر العالم نظيرتها الأمريكية، ما سيثبط النمو الاقتصادي العالمي. ومن المرجح أن يخفف تراجع النمو الضغوط التضخمية العالمية، وذلك عن طريق خفض الطلب على السلع والخدمات المتأثرة أسعارها بانقطاعات سلاسل التوريد وارتفاع تكاليف الشحن والطاقة. لهذا من المحتمل زيادة وفرة سلع ارتفعت أسعارها كثيرا، كالسيارات والأجهزة الإلكترونية بكميات أكبر في الأسواق، الأمر الذي سيضغط على أسعارها.

إنشرها