Author

كوريا الجنوبية نحو بناء ترسانة نووية

|

في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالحرب الأوكرانية - الروسية التي دخلت شهرها الخامس وسط مخاوف من توسعها وامتدادها إلى دول أخرى مجاورة، يواصل النظام الكوري الشمالي، مدعوما من حليفه الصيني، مشاغبته المعتادة لجاراته في الشرق الأقصى وعلى رأسها كوريا الجنوبية عبر إطلاق الصواريخ الباليستية وإجراء المناورات العسكرية وإصدار التهديدات غير المسؤولة.
وكما حدث في أوروبا التي سارع بعض دولها إلى زيادة ميزانياتها العسكرية أو التلويح بدخول النادي النووي بعيد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، نجد أن سيئول تحاول حماية نفسها دفاعيا باللجوء إلى خيار امتلاك أسلحة نووية، وهو خيار لطالما استبعدته بسبب الضغوط الأمريكية من جهة وبعض الاعتبارات الحساسة من جهة أخرى رغم امتلاكها العلوم والخبرات المتقدمة ذات الصلة.
نجد تجليات ذلك في تطور استراتيجي لافت غير مسبوق، وذلك حينما وافقت واشنطن الشهر الماضي على مد حليفتها الكورية الجنوبية بما تحتاج إليه من أجل صناعة مفاعلات نووية صغيرة، متخلية بذلك عن بنود اتفاقية موقعة بين الدولتين عام 1972 نصت على الاستخدام المسؤول لتكنولوجيا المفاعلات الصغيرة في الغواصات النووية، وحصر الدراسات والأبحاث التكنولوجية في الأغراض المدنية كتوليد الطاقة التي تقل عن 300 ميجاواط.
يعد المراقبون أن هذا التطور يفتح المجال أمام سيئول لتحقيق طموحاتها في امتلاك وبناء غواصات نووية بدلا من الغواصات التقليدية بهدف ردع المماحكات البحرية لنظام بيونجيانج المتهور. ويستند هؤلاء إلى تقارير إعلامية أفادت بأن اجتماعا فنيا عقد أخيرا في سيئول شاركت فيه قيادة البحرية الكورية ومسؤولون من شركة دايو العملاقة وخبراء في بناء الغواصات العاملة في الطاقة النووية. أما ما عزز فحوى هذه التقارير فهو بيان أصدرته وزارة الدفاع الكورية الجنوبية مطلع الشهر الجاري قالت فيه: إن الجيش الوطني سيتخذ قرارات حاسمة بعد أخذ عديد من العوامل في الاعتبار بما في ذلك البيئة الأمنية وقيود التكنولوجيا والميزانية.
وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلا، نجد أن كوريا الجنوبية أطلقت برنامجا سريا لتطوير الغواصات النووية عام 2003، لكن البرنامج تم حله في العام التالي وسط جدل حول قيام العلماء المشاركين فيه سرا عام 2000 بتخصيب اليورانيوم الممكن استخدامه لصنع أسلحة نووية. ورغم هذا الجدل والنكسة، لم تتخل سيئول أبدا عن جهودها للحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية، بدليل أن مون جاي إن، زعيم البلاد السابق، تعهد خلال حملة ترشحه للرئاسة عام 2017 بمواصلة العمل للحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية، بل قام بعيد تسلمه السلطة رسميا بالاتصال بنظيره الأمريكي لبحث القيود الأمريكية على تكنولوجيات تخصيب اليورانيوم لإنتاج الوقود النووي للغواصات.
ويمكن القول: إن طموحات سيئول النووية اكتسبت اليوم زخما جديدا بسبب ثلاثة تطورات: الأول إعلان بيونجيانج في يناير الماضي على لسان ديكتاتورها كيم جونج أون أنها انتهت من كل الأبحاث ذات الصلة بتطوير غواصات نووية قادرة على إطلاق الصواريخ الباليستية بعيدة المدى رغم الشكوك المحيطة بهذه المزاعم، ولا سيما في ظل الوضع الاقتصادي المزري الحالي لكوريا الشمالية. والثاني هو انتخاب يون سوك يول المعروف بتشدده ضد بيونجيانج، رئيسا جديدا لكوريا الجنوبية في مايو المنصرم. أما التطور الثالث فهو تزايد عدم الثقة لدى الكوريين الجنوبيين بالتعهدات الدفاعية والحمائية الأمريكية، خصوصا على ضوء السياسات المترددة لإدارة الرئيس جو بايدن.
وأخيرا، لا بد من الإشارة إلى أن الغواصات العاملة بالطاقة النووية أكثر قدرة من تلك التي تعمل بالطاقة التقليدية، حيث يمكنها دعم أنظمة فرعية أكثر تقدما وكثافة للطاقة ولديها نطاق غير محدود، ولا يحد عملها سوى القيود البشرية لأطقمها. كما أن الغواصات النووية ستقلل أيضا من اعتماد كوريا الجنوبية على الضمانات الأمنية الأمريكية، حيث قد تكون واشنطن مترددة في اتخاذ موقف حازم وحاسم ضد كوريا الشمالية، صاحبة الترسانة النووية والسلوك المستفز والأعمال العدائية التي لا يمكن التنبؤ بها في كثير من الأحيان. والجدير بالذكر فيما خص الجزئية الأخيرة أن الكوريين الجنوبيين لم ينسوا أبدا الموقف المتخاذل لواشنطن عام 2010 حيال قصف بيونجيانج جزيرة يونبيونج، ثم قيامها في مارس من العام نفسه بإغراق الفرقاطة الكورية الجنوبية تشيونان بطوربيد، ما أدى إلى مقتل 46 بحارا كانوا على متنها من أصل 104 بحارين، وإصدار مجلس الأمن الدولي بيانا أدان فيه نظام بيونجيانج بشدة، مع ترحيبه بضبط النفس الذي أبدته سيئول.
ونختتم برأي متداول في الأوساط المهتمة بأوضاع شبه الجزيرة الكورية مفاده أن سيئول ليست بحاجة إلى امتلاك الغواصات النووية والانضمام إلى نادي النخبة للدول التي تشغل هذه الأسلحة عالية التقنية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين والهند، وذلك بسبب تفوق قدرات غواصاتها التقليدية، خصوصا أن تشغيل الأولى مكلف، دعك من أن نطاقها غير محدد، وهذا لن يفيدها كثيرا لأن تركيزها ينبغي أن يكون على شبه الجزيرة الكورية والمياه المحيطة بها، إلا إذا كانت النية متجهة نحو الاستعداد لصراع محتمل في بحر الصين الشرقي أو الجنوبي.

إنشرها