تقارير و تحليلات

بنوك البذور صمام أمان للتنوع الغذائي .. الزراعة الأحادية خطر يهدد الإمدادات

بنوك البذور صمام أمان للتنوع الغذائي .. الزراعة الأحادية خطر يهدد الإمدادات

بنوك البذور صمام أمان للتنوع الغذائي .. الزراعة الأحادية خطر يهدد الإمدادات

بنوك البذور صمام أمان للتنوع الغذائي .. الزراعة الأحادية خطر يهدد الإمدادات

قليل منا سمع اسم "سبيتسبرجن" من قبل، والأكيد أن عددا أقل منا يعرف ما هذا الـ"سبيتسبرجن".. وماذا عن القبو الذي يطلق عليه "قبو يوم القيامة" هل سمعت عنه سابقا أو تعرف ما في داخله؟، من المؤكد أن تلك الأسماء ليست من الأسماء المتداولة في الأخبار والصحف اليومية، ومن بينها الصحف الاقتصادية، إذ ينصب الاهتمام على التضخم ومعدلات الفائدة وأسعار العملات والمعادن أو الصراعات التجارية والعقوبات الاقتصادية، وعلى الرغم من ذلك، فإن استمرار الحياة الإنسانية والبشرية ككل ربما يرتبط في لحظة من اللحظات بـ"سبيتسبرجن" وقبو يوم القيامة.
سبيتسبرجن هي الجزيرة الكبرى والوحيدة المأهولة بالسكان في أرخبيل سفالبارد في النرويج، وفي أعماق جبل جليدي على تلك الجزيرة بحدودها المشتركة مع المحيط المتجمد الشمالي وبحر النرويج وبحر جرينلاند، يتم الاحتفاظ بأحد أهم الموارد الضرورية لاستمرار الحياة الإنسانية، ألا وهي "البذور".
 في تلك الجزيرة حيث تتراوح درجات الحرارة بين أربع درجات مئوية صيفا،، و - 16 في فصل الشتاء، شيد بنك أو قبو أرخبيل سفالبارد لتخزين ملايين من البذور، وحاليا يوجد فيه أكثر من مليون نوع من المحاصيل الغذائية من كل بلدان العالم تقريبا، ولديه الإمكانية لتخزين ملايين البذور الأخرى، ليكون لدى البشرية صندوق ودائع ضخم يحتوي على أكبر مجموعة في العالم من البذور والتنوع البيولوجي الزراعي، باختصار هذا البنك أو القبو يحوي داخله 13 ألف عام من التاريخ الزراعي للبشرية.
في تلك البقعة الجغرافية حيث الفراغ المتجمد في أوقات كثيرة من العام، وحيث لا يزيد عدد السكان عن ثلاثة آلاف نسمة، أنشئ بنك البذور العالمي ليكون مخزنا للبذور يستخدم في حال وقعت حادثة مروعة أو كارثة عالمية قضت على المحاصيل الزراعية في أغلب بقاع الكرة الأرضية، وبالطبع اختيرت تلك المنطقة كموقع لبنك البذور لبعدها عن الأماكن التي تخاض فيها الحروب والصراعات، وفي داخل أحد جبال الجزيرة وبعمق 150 مترا، شيد هذا القبو بأنظمة تبريد وتدفئة متنوعة ومتعددة للحفاظ على درجات الحرارة المثلى التي تتطلبها كل مجموعة من البذور، بعد أن يتم وضعها في أكياس ملائمة وتفريغها من الهواء لضمان عدم وصول الآفات الزراعية اليها.
وعلى الرغم من أن القيمة المالية لمحتويات قبو أرخبيل سفالبارد ضئيلة، إذ إنها في نهاية المطاف ليست إلا بذورا زراعية، إلا أن علماء وخبراء الزراعة يعدون أن ما تحتويه الصناديق ربما يكون في لحظة من لحظات الصراعات البشرية مفتاح المستقبل للأمن الغذائي للإنسانية جمعاء.
من جانبها، قالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة إيملي فيندلي، أستاذة الاقتصاد الزراعي في جامعة شيفيلد، إن "فكرة الاحتفاظ بالبذور تخوفا من المستقبل الغامض تعود إلى فجر التاريخ واكتشاف الإنسان للزراعة، بل إنه في بعض الأحيان كان العلماء يفضلون الموت جوعا عن استهلاك تلك البذور، فخلال الحرب العالمية الثانية، تحصن عدد من العلماء الروس في الغرفة التي تحتوي على البذور لحمايتها من المواطنين الجوعى والجيش الألماني، بل إن أحدهم مات جوعا وكانت أكياس الأرز تحيط به، لكنه رفض أن يأكلها، لأنه يدرك أن حماية تلك البذور هي الضمانة لأن تتعافى روسيا بعد الحرب وتستطيع أن تعاود الزراعة".
وأضافت "الآن الفكرة أخذت بعدا وتنسيقا دوليا، وبات هناك إدراك جماعي من قبل الجميع بغض النظر عن الخلافات السياسية بضرورة حماية البذور".
وفي الواقع، فإن تأمين المحاصيل بات مصدر قلق عالميا، لكونه شرط أساسي لضمان الأمن الغذائي، فبحماية تنوع المحاصيل وإتاحتها للباحثين والمزارعين يكون في مقدورنا تكييف الزراعة مع الآفات والظروف المناخية والبيئية، وإطعام الجميع بشكل مناسب، ورغم هذا، فإن خبراء الزراعة يؤكدون أننا نفقد في الوقت الراهن تنوع المحاصيل بمعدل ينذر بالخطر بما يقوض قدرة الأنظمة الغذائية على الصمود.
ومن بين 20 ألف نبتة صالحة للأكل، و6000 تم استخدامها تاريخيا كغذاء، فإن أقل من 200 نبتة تقدم الآن مساهمة كبيرة في إنتاج الغذاء، وتسعة فقط تمثل ثلثي إنتاج الغذاء العالمي، وذلك وفقا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة الفاو، ما يجعل تنوع المحاصيل والحفاظ عليها أحد أكبر التحديات التي تواجه البشرية.
بدوره، ذكر لـ"الاقتصادية" الدكتور ديفيد مالتس، أستاذ الاقتصاد الزراعي والاستشاري في البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، "خلال العقود الخمسة الماضية، تغيرت الممارسات الزراعية بشكل كبير وملحوظ، فمع التقدم التكنولوجي بات بإمكان البشرية إنتاج المحاصيل على نطاق واسع، لكن بينما زادت غلة المحاصيل، انخفض التنوع البيولوجي لدرجة أن حوالي 30 محصولا فقط توفر 95 في المائة من احتياجات الإنسان من الطاقة الغذائية، والآن 10 في المائة فقط من أصناف الأرز التي استخدمتها الصين في خمسينيات القرن الماضي لا تزال تستخدم حتى اليوم، والولايات المتحدة فقدت أكثر من 90 في المائة من أصناف الفاكهة والخضراوات خلال القرن الـ20، طبيعة الزراعة الأحادية تجعل الإمدادات الغذائية أكثر عرضة لتهديدات، مثل الأمراض والجفاف".
ويستدرك قائلا "هذا يضفي مزيدا من الأهمية على بنك البذور، لأن البذور الموجودة في قبو أرخبيل سفالبارد أصناف برية وقديمة وعديد منها لم يعد يستخدم أو يزرع حاليا".
هذا التنوع الجيني الموجود في القبو، يتيح للعلماء في اللحظات المصيرية تطوير سلالات جديدة من المحاصيل مهما كانت التحديات التي سيواجهها العالم، حيث يمكن أن يتم التوصل إلى محاصيل جديدة يمكن أن تزرع في درجات حرارة أكثر برودة أو دفئا عما تزرع فيه الآن.
بالتأكيد "قبو يوم القيامة" ليس فريدا من نوعه في العالم، وإن كان أكثر بنوك البذور أهمية.
وأوضح لـ"الاقتصادية إل.ام. إليوت، الباحث في المجال الزراعي، قائلا: "تعود فكرة بنوك البذور إلى ثمانينيات القرن الماضي، وكان يقف خلفها كاري فاولر المدير التنفيذي السابق لكروب ترست، وهي منظمة غير ربحية أنشأتها منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو"، وتحولت الفكرة إلى حقيقة بعد التوقيع على معاهدة البذور الدولية التي تفاوضت عليها الأمم المتحدة 2001، والحكومة النرويجية هي ممول هذا قبو يوم القيامة، والآن هناك نحو 1700 بنك للبذور حول العالم، تقوم تلك الشبكة البنكية بجمع البذور وحفظها واستخدامها في مجال البحث الزراعي وتطوير أصناف جديدة، وبنك جزيرة "سبيتسبرجن" يعمل جنبا إلى جنب مع نظرائه عند فقدان مواردها أو تعرضها للتلف".
قبل عدة أيام، أفادت الانباء الواردة من ساحات القتال في أوكرانيا إلى أن منشأة أبحاث بالقرب من بنك البذور الوطني في خاركيف تعرض للضرر، ما أثار مخاوف بشأن أن تطول نيران الحرب بنك البذور الوطني، وهو عاشر أكبر مكان للتخزين من نوعه في العالم.
وفي الحقيقة، فإنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها أحد بنوك البذور للخطر، إذ شهدت سورية تلك المأساة من قبل، فالمركز الدولي للأبحاث الزراعية في المناطق الجافة، وهو منظمة أبحاث زراعية عالمية، كان مقره بالقرب من مدينة حلب السورية، أجلى موظفيه عام 2012، ومع اشتداد القتال تخلى الجميع عن بنك البذور الذي كان يضم مجموعة من أكثر البذور قيمة في العالم، حيث حوى بعضا من أقدم سلالات القمح والشعير، وفي 2015 تم سحب بعض البذور من قبو البذور لإعادة زراعتها في لبنان والمغرب، وبعد نجاح عملية الزراعة أعيدت الحبوب مرة أخرى إلى القبو في جزيرة سبيتسبرجن.
سورية لم تكن حالة فريدة في تدمير بنوك البذور، إذ حدث هذا في أفغانستان والعراق نتيجة الصراعات والحروب، بل أحيانا تكون الطبيعة مسؤولة عن تدمير بنوك وأقبية البذور، كما حدث في الفلبين، حيث أدت الفيضانات والأعاصير والحرائق إلى تدمير بنوك البذور.
مع هذا، ترى إيما بورج، الخبيرة الزراعية، أن نقص الموارد المالية ربما يكون التهديد الحقيقي لبنوك البذور، إذ إن عديدا من أقبية البذور في العالم خاصة في البلدان منخفضة الدخل لا تتوافر لديها موارد مالية كافية لتخزين البذور التي في حوزتها أو حمايتها بشكل صحيح.
 وقالت لـ"الاقتصادية"، إن "بنوك البذور ربما تعد أكثر نماذج التعاون الدولي نجاحا، وعلى الرغم من التوترات الجيوسياسية على المستوى الدولي، فإن الجميع وبغض النظر عن الخلافات والصراعات يشارك في بنوك البذور ويرسل إليها عينات من البذور التي لديه للاحتفاظ بها وحمايتها ليوم ربما يكونون في حاجة ماسة إليها".
وتستدرك قائلة، هذا يتطلب مزيدا من المساندة المالية لنحو 1700 بنك من هذا النوع حول العالم لتكون قادرة على الاستمرار في عملها والحفاظ على الإرث الزراعي للبشرية.
لماذا أرخبيل سفالبارد؟
وحول سبب اختيار أرخبيل سفالبارد ليقام عليه قبو يوم القيامة، أبرزه أن سفالبارد هي أقصى بقعة في شمال الكرة الأرضية التي تصل إليها رحلات طيران منتظمة، ما يوفر موقعا نائيا، لكن يمكن الوصول إليه بانتظام، كما أن المنطقة مستقرة جيولوجيا ومستويات الرطوبة منخفضة، ومحمية من فيضان المحيط وفقا لأسوء سيناريو لارتفاع مستوى سطح البحر.
وذلك علاوة على أن التربة الباردة توفر تجميدا طبيعيا للبذور، ما يوفر طريقة فعالة من حيث التكلفة وآمنة من الفشل للحفاظ على البذور.
والقبو قادر على تخزين 4.5 مليون نوع من البذور، ويضم المجموعة الأكثر تنوعا من بذور المحاصيل الغذائية في العالم، ويضم حاليا 1145693 عينة من عينات البذور.
وكانت قبيلة الشيروكي، وهم من السكان الأصليين من أمريكا الشمالية، أول من أودعت بذورا لتسعة محاصيل غذائية موروثة سبقت الاستعمار الأوروبي في القبو.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات