Author

انظر إليهم .. واحتضنهم

|
أتذكر لقطة اجتماعية أعقبت دخول الإنترنت للسعودية على نطاق واسع وشعبي قبل أكثر من ربع قرن. اللقطة كانت في مجلس صديق للعائلة من كبار السن. كان هناك بعض أبنائه وأصهاره، وكانوا جميعا يضعون أمامهم أجهزة حاسب محمولة "لابتوب" مفتوحة لا أعرف إلى اليوم ماذا كانوا يتابعون على شاشاتها أو يقومون به، وأحسبني اليوم أعتقد أن بعضهم لم يكن يفعل شيئا سوى مجاراة الموضة التي سادت.
صاحب المجلس كان مستاء من سلوكهم، وكعادة كبار السن الأنقياء لم يخف مشاعره، وصب عليهم موعظة صغيرة سريعة قاصفة عن احترام مجلس العائلة والضيوف، ما زلت أتذكر شذرة منها تقول، "كل واحد متحضن حديدة كنها ولده".
اليوم لا يزال الاحتضان قائما وإن تغير المحضون للأجهزة اللوحية والهواتف الذكية، وفي كل فترة تظهر حملة توعوية عن الذين يستخدمون هواتفهم الذكية في كل مكان حتى وهم يسيرون في الشارع، مشاة أو راكبين أو سائقين، وهم مع عائلاتهم وأحبائهم، ومعظم الحملات تركز على طلب رفع الرأس أو العينين والانتباه للطريق، أو القيادة، والأهم الانتباه إلى الأحبة من حولنا.
ما زلت أذكر مقطعا لحملة من إحدى الدول الأوروبية عنوانها "ارفع عينيك" لرجل منكب على هاتفه الذكي في الشارع فمرت امرأة بجواره في اللحظة التي رفع بصره عن جهازه، تحادثا، تعارفا، استلطفا، أحبا، وتزوجا، وفي نهاية المقطع تعاد اللقطة نفسها دون أن يرفع رأسه، فتمر الحسناء دون أن يشعر وتضيع فرصة إيجاد الحب.
تقنيات الاتصال تنمي الفردية والذاتية، وانكباب الأوجه والأعين أكبر دليل واقعي دون دراسات وحملات، وهذه التقنيات أو الهواتف تمنح المستخدم لها قدرات على التحكم والتنقل من موضوع إلى آخر، كما أن بعض المتخصصين في علم النفس يعتقدون أن اسم الفرد ورمزه الخاص عندما يظهر على الشاشة ويتداوله الآخرون، يحقق اعتدادا بالذات وإرضاء للفردية والنرجسية والأنا وفيه تضخيم لها.
المؤلم فعلا هو رؤية أسرة بكاملها في مكان عام يجلسون معا، لكن كل واحد منهم في مكان "خاص" على شاشته، ولتحقيق توازن يساعد على تقليل مخاطر هذا الانكباب يجب على الأقل منع الهاتف الذكي في أي اجتماع أو تنزه أسري محدود الساعات، وبالطبع منع ذلك لقائدي السيارات ومعاقبتهم.
الاتصال والتواصل مهمان، لكن عدم رفع الرأس وأنت بين الأحبة كوالديك أو ناسك، هو في الحقيقة "طأطأة" تظهر مذلتها لاحقا، ارفع عينيك، انظر إليهم، واحتضنهم.
إنشرها