Author

لماذا ترتفع الأسعار؟

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
هل يمكن للمقاطعة الشعبية أن تنهك اقتصاد دولة، أو تجبر رجال أعمال على التراجع عن قراراتهم برفع الأسعار؟ هل المقاطعة الشعبية التي نسمع عنها في كل حدث تؤتي ثمارها؟ ما أعرفه اليوم أنه لا يوجد دليل علمي موثوق على ذلك، هناك نقاش ثري في كتب الاقتصاد عن حالات التركز Concertation في مقابل التنوع، وكلاهما يرتبط بالقوة التفاوضية بين المشترى والبائع، والحالات كالتالي: بائع أو بائعون معدودون أمام عدد كبير من المشترين غير المنظمين، أو العكس مشتر واحد أو مشترون معدودون أمام عدد كبير من البائعين غير المنظمين، وجود أي حالة من هذه الحالات يفرز حالة احتكار القلة أو حالة المنافسة الاحتكارية، سواء عند البيع أو الشراء بحسب الحال، والطرف الأقوى يفرض الأسعار. سأضع حالة دراسية واضحة جدا وهي الحالة الروسية الأوروبية في مسألة الغاز، بائع واحد أمام مشترين متنوعين، لقد استطاع الدب الروسي فرض قوته في الأسعار وشكل التوريد والتسليم حتى في العملة المختارة رغم الحرب. القوة التفاوضية تميل بكفتها للدب الروسي، ليس فقط لأنه المنتج الرئيس للغاز الذي يتم توريده لأوروبا، بل لأنه يستطيع حماية هذه القدرة التفاوضية بقوة السلاح أيضا، وقد كتبت عن هذا الموقف الاستراتيجي قبل، وقلت إن الأيام ستثبت من سيحتاج إلى الآخر. هذه حالة واضحة للقوة التفاوضية التي تمنح الاحتكار وتمكن البائع من فرض الأسعار، فهي احتكار إنتاج مع القدرة على فرض الأسعار فرضا بالتهديد العسكري. في المقابل هناك مجموعة "أوبك+" التي تمثل مجموعة منتجين أمام مجموعة مشترين، المنتجون أقل عددا من المشترين، والوضع الاستراتيجي هو المنافسة الاحتكارية، بمعنى أن أمام المنتجين الاختيار بين المنافسة وحرب الأسعار أو الاتفاق على الإنتاج، ليس أمام المشترين سوى مراقبة النتائج ومحاولة الضغط باتجاه منع أي اتفاق بين دول الإنتاج فقط، اندلعت حرب الأسعار بين المنتجين أكثر من مرة، وقد نبه الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة في آخر حرب أسعار نشبت بين الأطراف أننا في وضع نظرية المباريات Game Theory، فالموقف الاستراتيجي يترتب بناء على توقعات حركة الطرف الآخر، وهذا يقود إلى انهيار الأسعار لأن النتيجة صفرية، لكن هناك بديلا آخر هو تنظيم عمل المنتجين للاستفادة من الوضع الاستراتيجي، وهذا ما حدث فتم اختيار "أوبك +" خيارا استراتيجيا منح الأسعار استقرارا وتوازنا لكل الأطراف في وقت مهم جدا.
في الداخل السعودي وفي وقت سابق قرر بعض شركات الألبان لدينا رفع الأسعار على أساس الاستفادة من وضع استراتيجي خاص، منافسة القلة، أمام قطاع كبير من المشترين غير المنظمين، لكن لم يكن المنتجون منظمين أيضا، وعلى أساس أن قيام شركة واحدة برفع الأسعار سيؤدي إلى قيام الآخرين بذلك، حتى دون اتفاق للاستفادة من الوضع الاستراتيجي وعدم قدرة المشترين على التفاوض، لكن ذلك لم ينجح عندما قررت الشركات الأخرى المحافظة على الأسعار السابقة، على أساس الفوز بحصص أكبر، لم يحدث ذلك أيضا لأن حجم السوق كان أكبر من قدراتها على الفوز بحصص جديدة، وبقي الرهان على حصص محدودة بحسب الجودة. وقبل عدة أعوام استطاعت شركات الأسمنت والحديد رفع الأسعار لكن ذلك جاء دون تحديد سعر، بل بفعل قوى السوق نفسها، حيث كان النمو الاقتصادي قويا جدا، وفضلت الشركات عدم التوسع في الاستثمارات وبناء مصانع جديدة والاكتفاء بالطاقة القصوى على أساس أن الفوز بالربح الضخم من ارتفاع الأسعار، لكن ذلك كان على حساب النمو الاقتصادي في القطاع ككل، حيث إن ارتفاع الأسعار بأكثر من قدرات المشترين يؤدي إلى منحى لافر، تنخفض الإيرادات كلما زادت الأسعار بسبب عزوف المشترين لا بسبب تنظيم عملهم واتفاقهم، بمعنى أن التوقف عن الشراء جاء قسرا عنهم بسبب ضعف قوتهم الشرائية الجماعية. هذه هي النماذج المختلفة لارتفاع الأسعار، فالتنظيم سواء في جانب الشراء أو البيع هو المحك الاستراتيجي.
وبقي سؤال هل يمكن أن تختلف الأسعار لمنتج معين بين دولة وأخرى، الإجابة العلمية لذلك هي لا، لأن المفترض في هذه الحالة أن تتدفق السلع من المكان الأرخص كي تباع في المكان الأغلى، وهذا يعيد الجميع إلى التوازن للحفاظ على السلع من التهريب، وهذا حدث في فترة كان سعر البنزين مدعوما في المملكة بينما الأسعار مرتفعة في دول الجوار فكان البنزين يهرب للخارج، حتى عادت الأسعار حاليا إلى التعادل تقريبا، أو ما يجعل التهريب أكثر تكلفة، فهل يمكن أن يحدث العكس كأن تكون الأسعار أعلى في المملكة بينما هي أقل في دول الجوار لمنتجات مصنوعة في السعودية؟ هذا يعني إغراقا في التجارة الدولية ويعرض الشركات السعودية لقضايا كثيرة جدا، وقد حدثت مثل هذه الاتهامات مع الهند وتركيا، عندما تم اتهام "سابك" بالإغراق. لكن استطاعت "سابك" إثبات عدم صحة تلك الادعاءات.
لماذا ارتفعت الأسعار؟ هل يوجد احتكار قلة أو تنافسية احتكارية منظمة؟ لا يمكنني الجزم، طالما أن هيئة المنافسة لم تعلق فيما أعلم، لكن الأمر يحتاج إلى توضيح، هل يمكن للمشترين تنظيم حملة مقاطعة؟ الإجابة: هذه الحملات غير منتجة، كما لا يوجد دليل على الاحتكار أو الاتفاق بين البائعين ولذلك فهي غير صحية أيضا، هناك نوبات هلع تقود إلى الشراء غير المنظم، وهنا لا بد من تدخل وزارة التجارة وهيئة التجارة الخارجية لتأكيد سلامة الإمدادات.
وهنا أتذكر أزمة الشعير قبل عدة أعوام بسبب ضعف سلاسل الإمداد، وتدخلت وزارة المالية بتوجيهات عليا لسد العجز، لذلك فإن الوضع الراهن يحتاج إلى مؤتمر صحافي بين أطراف العلاقة، وزارة التجارة، وهيئة المنافسة، وهيئة التجارة الخارجية.
إنشرها