Author

تصحيح حتمي أم دورة اقتصادية؟

|

في منتصف نيسان (أبريل) الماضي حذر صندوق النقد الدولي من احتمالات تدهور أسواق الأسهم، والسندات في العالم بسبب اتجاه البنوك المركزية الرئيسة، وبينها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، إلى زيادة أسعار الفائدة بوتيرة أسرع من توقعات المستثمرين بهدف كبح جماح التضخم، وفي ذلك الوقت قال مدير إدارة أسواق النقد والمال في صندوق النقد الدولي وكبير نواب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك سابقا، إن احتمالات حدوث موجة بيع كثيف في أسواق المال الرئيسة ستزيد إذا ترافق تشديد السياسات النقدية في الدول الكبرى مع ركود الاقتصاد.
ويبدو أنه لم يكن أمام مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من حل آخر لمواجهة التضخم المتصاعد إلا رفع سعر الفائدة تزامنا مع تقليص مشترياته من الأصول، وعلى الأسواق المالية حول العالم تحمل المخاطر التي يعتقد أنها ستكون مؤقتة، فقد قرر الاحتياطي الفيدرالي رفع النسب إلى ما بين 0.75 و1 في المائة، وبعد زيادة ربع نقطة مئوية في آذار (مارس)، وهذه الزيادة الأخيرة أكثر قليلا مما كان متوقعا، حيث كان الفيدرالي يتحدث عن ربع نقطة فقط على أن تتم الزيادة مرة أخرى كلما كان ذلك مناسبا.
لقد تمت مناقشة قضايا تداعيات ارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة باستفاضة وفي معظم دول العالم، والموضوع يشبه معالجة مريض لديه عديد من الأمراض المزمنة، وعليك اتخاذ قرار بشأن ما هو الأكثر حاجة إلى المعالجة، فالتضخم أضراره كبيرة على الاقتصاد، ويؤدي في نهاية المطاف إلى تراجع الأسواق المالية، ولذا فإن معالجته تعد أولوية بالنسبة إلى صناع القرار.
من المؤكد أن الأسواق المالية استفادت كثيرا من الإجراءات العديدة التي قدمتها البنوك المركزية، ومن بينها الفوائد الصفرية التي قادت إلى انتعاش قوي بعد الجائحة، جنبا إلى جنب مع عودة الطلب المكبوت بقوة، إلا أن الأمر اختلف، حيث أصبحت البنوك المركزية هي الخطر على الأسهم العالمية، وذلك وفقا لمسح غير رسمي أجرته "بلومبيرج" شارك فيه مديرو الصناديق الاستثمارية، وهو الاستطلاع الذي تم قبل قرار "الفيدرالي" برفع الفائدة، وهذا يقدم دليلا على أن الأسواق كانت تترقب مثل هذا القرار، والتراجع لم يكن بداعي المفاجآت، بل هو رد فعل تصحيحي، حتى تعكس الأسعار قيمة العوائد المستقبلية.
ويشير تقرير لوكالة "بلومبيرج" إلى تراجع مؤشر الأوضاع المالية FCI، وهذا المؤشر عبارة عن مقياس تتبع لمستوى الضغوط المالية في أسواق المال، والسندات، والأسهم الأمريكية للمساعدة على تقييم مدى توافر الائتمان وتكلفته، حيث تشير القيمة الإيجابية إلى الظروف المالية التيسيرية، بينما تشير القيمة السلبية إلى تشديد الشروط المالية مقارنة بمعايير ما قبل الأزمة.
ومع تراجع هذا المؤشر، فإن الأسواق تتشدد بشأن الائتمان، كما أن المؤشرات تظهر تأثير تشديد الأوضاع المالية في وتيرة الاكتتابات العامة الأولية، وائتمان الشركات، نظرا إلى ارتفاع تكاليف التمويل، وبما يؤدي إلى تراجع القوى الشرائية في الأسواق، وبالتالي تتراجع الأسعار.
لكن هذا في مجمله يمنح قرارات "الفيدرالي" قوة وصلابة، فالأسواق تتحرك نحو التشديد من تلقاء نفسها، ما يدعم خطط مكافحة التضخم، لكن إلى أي مدى يمكن معه السيطرة على هذا الاتجاه، وبمعنى آخر ما الحد الذي يمنع الأسواق من المبالغة في ردة الفعل قبل أن تنهار تماما؟ وما ضمانات صمود البورصات العالمية؟
هناك تزامن بين هذه الأوضاع وظروف أخرى عدة، من بينها الحرب في أوكرانيا، ومخاطر الركود العالمي، ومخاوف كبيرة تحيط بالمستثمرين حول نجاح آليات السيطرة على التضخم قبل العودة مرة أخرى إلى رفع أسعار الفائدة التي لم يستبعدها "الفيدرالي" حتى الآن، فالاحتمالات لم تزل كبيرة بشأن استمرار تراجع الأسواق في ظل تواتر البيانات السلبية.
ومع وجود مثل هذه المخاوف، فإن صناع القرار الاستثماري في الصناديق التي تواجه ضغوطا من قبل المستثمرين قد يقررون الاتجاه نحو الملاذات الآمنة، ما يعني مزيدا من انخفاض السيولة بشكل ملحوظ في معظم البورصات، أي مزيدا من التراجع، فهل التراجع الحالي للأسواق المالية مؤشر ثقة بالسيطرة على التضخم أم أزمة جديدة في حلقة التضخم، والفائدة؟

إنشرها