Author

التسلح بالتكنولوجيا .. تنافسية محتدمة

|

تداولت وكالات الأنباء والصحف العالمية كافة هذا الأسبوع تقريرا صادرا عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري"، يؤكد أن حجم الإنفاق العسكري قد نما بوتيرة متسارعة وللعام السابع على التوالي، فقد تخطى حجم الإنفاق الدفاعي العالمي لأول مرة حاجز تريليوني دولار، حيث بلغ 2113 مليار دولار بزيادة 0.7 في المائة عن 2020، ويمثل الآن 2.2 في المائة من الاقتصاد العالمي، وإذا كان تسابق أكبر الدول مثل الولايات المتحدة والصين وبريطانيا وروسيا، ليس مستغربا كثيرا في ظل تمتعها بحق الكرسي دائم العضوية في مجلس الأمن، فالحفاظ على هذه المكانة يتطلب المحافظة على مستوى متقارب من التسلح بين المنافسين، ولهذا فإن تقريرا عن زيادة الإنفاق العسكري بين هذه الدول قد لا يقدم صورة واضحة عن حمى التسلح التي تصيب العالم منذ أربعة أعوام تقريبا وأسباب تزايدها بشكل مطرد حتى مع انتشار جائحة كورونا 2020، وتقدم دليلا على هذا التسابق العالمي نحو التسليح. فهذه اليابان، التي تحافظ على سياسة إنفاق عسكري بما لا يتجاوز 1 في المائة من الناتج المحلي، تصرح من خلال وزير الدفاع 2021 بعزمها على زيادة الإنفاق العسكري فوق ذلك، وسط تأكيدات أن الإنفاق العسكري في اليابان قد وصل إلى رقم قياسي خلال 2022 بلغ 47 مليار دولار. كما تتطلع الدولة الآسيوية إلى زيادة الدفاعات والإنفاق على الفضاء والدفاع الإلكتروني، ما جعل وزارة الدفاع تخصص نحو 300 مليار دولار في مجالات البحث والتطوير خاصة في تحسين قدراتها على اعتراض الصواريخ العابرة للقارات، وطائرة مسيرة تعمل بالذكاء الاصطناعي، وتقنيات الليزر لإسقاط الطائرة المسيرة. وفي الجهة المقابلة من العالم أنفقت الحكومة الألمانية عام 2021، 37 مليار يورو للدفاع، وهو ما يعادل 1.26 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتسعى للوصول إلى 2 في المائة، ما يرفع الإنفاق العسكري إلى أكثر من 70 مليار يورو 2024، أي ما يقرب من الضعف. لكن مع طبول الحرب في أوكرانيا أعلن أولاف شولتز المستشار الألماني، فبراير الماضي أن الحكومة الألمانية ستخصص مائة مليار يورو من ميزانيتها لـ2022 للاستثمارات العسكرية، وذلك ما يعد تراجعا عن سياسة ألمانية طويلة الأمد.
وفي مارس الماضي كشف الاتحاد الأوروبي عن استراتيجية دفاعية أكثر استقلالية للدول الأعضاء، ووافق القادة الأوروبيون على زيادة إنفاقهم الدفاعي بشكل كبير من أجل زيادة قدرة الدول الأعضاء على التصرف بشكل مستقل خارج حدود 2 في المائة، التي كانت تعد سياسة مقدسة لعقود، وهو ما شجع بلجيكا والدنمارك وإيطاليا والسويد ورومانيا على رفع الإنفاق من 2 إلى 2.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتخطط بولندا القريبة من آتون الحرب لزيادة الإنفاق العسكري عند حدود 3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العام المقبل.
هذا هو المشهد تماما، فحمى زيادة الإنفاق العسكري تجتاح العالم من شرقه إلى غربه، ولقد زادت الحرب في أوكرانيا من تسارع وتيرة التسلح، ما يعزز التوقعات باستمرار ارتفاع الإنفاق الدفاعي خلال الأعوام المقبلة في ظل تفاقم الصراعات في العالم. وهنا لا بد من وقفة بشأن اتجاهات هذا الإنفاق، فلقد تغيرت أشكال الحروب والنزاعات المسلحة حول العالم، فما تابعه العالم خلال النزاع الروسي - الأوكراني من مشاهد الحرب الإلكترونية قبل اندلاع النزاع المسلح، وما تم استخدامه من تقنيات الطائرة المسيرة، وأجهزة الرصد والطائرات الشبحية، والصواريخ الفرط صوتية عالية الدقة، يؤكد أن جزءا من التفسير المنطقي لنزعة زيادة الإنفاق العسكري يعود إلى سرعة التقدم في التكنولوجيا العسكرية والابتكارات النوعية التي تسهم في زيادة حدة التنافسية في التصنيع وعقد الصفقات في عدد من دول العالم. وفي هذا السياق انتهت دراسة عن تكنولوجيا النانو في الصناعات العسكرية نشرتها دورية ملف الدفاع الأمريكية Defense Dossier إلى أن الانخفاضات المستمرة في التمويل الحكومي إضافة إلى زيادة الاستثمارات الدولية تهددان الآن بإزاحة أولوية الولايات المتحدة في هذا المجال، وأن من الأهمية بمكان بالنسبة إلى الولايات المتحدة الحفاظ على التمويل الفيدرالي لأبحاث تكنولوجيا النانو وزيادة تحفيز البحث في عدد من التقنيات المبتكرة، بدءا من الأنظمة الصغيرة غير المأهولة إلى تحسين الأداء بما يمكن من تطوير القدرات العسكرية الثورية التي يمكن أن تحافظ على الميزة العسكرية الأمريكية في المستقبل، وأشارت دراسات أخرى إلى أن المخاوف من الذكاء الاصطناعي تثير وتحفز الإنفاق العسكري، أيدها ستيفن هوكينج الفيزيائي الشهير، الذي حذر في مقابلة مع "بي بي سي" من أن التطورات في الذكاء الاصطناعي يمكن أن تشير إلى نهاية الجنس البشري، في إلماحة واضحة بشأن تطور تكنولوجيا الروبوتات العسكرية والحرب الروبوتية، فالتطوير المستمر لتقنيات "المقاتل الذكي" تسعى للوصول إلى أسلحة فتاكة قادرة على تحديد الهدف بذاتها وتميزه دون غيره ومهاجمته، وهذا يخرج العنصر البشري تماما من المعادلة، ما يجعل هذه التقنيات الجديدة مثل الروبوتات تتحدى كل الأطر القانونية والسياسية والأخلاقية. وفي ساحة المعركة ومع هذه القدرات التقنية فإن من الصعب ضمان احتواء الروبوتات العسكرية ومنعها من توسيع ساحة المعركة وتعديل شكل وعدد الأهداف تبعا للتطورات الميدانية، وهو ما يتسبب التفكير فيه في رعب كبير قد يتجاوز الرعب الذي خلفه سباق التسلح النووي، وإذا كانت Google تقود الآن جزءا كبيرا من البحث في صناعة الروبوتات، بما في ذلك المكونات العسكرية، ومع قدرات شركات التقنية مثل جوجل وسرعتها في التحول التكنولوجي فإن المشهد العام للتنافسية في تقنيات التسليح سيتسارع، بل قد تصبح التحولات دراماتيكية.

إنشرها