Author

الإفراج عن الاحتياطيات النفطية الاستراتيجية سلاح ذو حدين

|
أستاذ جامعي ـ السويد

الاحتياط واجب في عالم اليوم الذي ما إن خرج من أزمة حتى دخل في أخرى أكثر شدة وحدة.
وأن نحتاط لما تخبئه الأيام جزء أساسي من الاستراتيجية، ليس على مستوى الدول فحسب، بل حتى على مستوى الأفراد.
ومفردة الاحتياطي ترد أكثر ما ترد عند الحديث عن الجيوش. كل جيش له من الاحتياطي، رجالا ونساء وعدة وعددا وتسليحا، تلتجئ إليه الدول عند الأزمات أو الحروب.
ولكن لا أظن إن كان لمسألة الاحتياط في إطار المفهوم الذي نحن بصدده من الأهمية والتأثير مثل الاحتياطيات النفطية أو المخازن الاستراتيجية التي بنتها الدول الصناعية المستهلكة للذهب الأسود، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
وتجدر الإشارة إلى أن الاحتياطيات الاستراتيجية لدى الدول الصناعية لا علاقة لها بالاحتياطيات البترولية المثبتة والمحتملة لدى الدول؛ الأولى احتياطيات جرى جمعها وشراؤها على مر العقود الخمسة الماضية، والثانية هي احتياطيات طبيعية متوافرة أصلا في باطن الأرض أو على شكل رمال أو صخور نفطية.
شرعت الدول الصناعية الغربية في بناء احتياط استراتيجي من النفط في نحو منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
ومنذ ذلك الحين استطاعت هذه الدول جمع ما يقترب من 1.4 مليار برميل نفطي، أكثر من ثلثها تعود للولايات المتحدة التي تحتفظ بها في مواقع من كهوف اصطناعية جرى بناؤها في قباب ملحية تحت سطح الأرض.
والمتتبع لشؤون النفط، لا بد أن يلاحظ أن الاحتياطيات الاستراتيجية النفطية وعلى الخصوص التي لدى الولايات المتحدة صار لها شأن في تقرير العرض والطلب وكذلك الأسعار.
انخفاض الاستراتيجي النفطي في الغالب مؤشر لزيادة السعر، وارتفاع المخزون في الغالب مؤشر لاستقرار أو هبوط السعر.
بعد الحرب الروسية - الأوكرانية حدثت طفرات في أسعار النفط وشح في العرض ما حدا بالولايات المتحدة إلى اتخاذ قرار غير مسبوق وذلك بالإفراج تباعا وعلى مدى ستة أشهر عن 180 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي الذي لديها.
إضافة إلى ذلك اتفقت الدول الصناعية الأخرى الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية على سحب ما مجموعه 60 مليون برميل أخرى في الفترة ذاتها.
وهذه ليست المرة الأولى التي تفرج فيها الدول الصناعية الكبرى عن جزء من مخزوناتها النفطية، إلا أن البراميل المتفق عليها هذه المرة لا سابق لها من حيث الحجم.
وكانت الصين قد انضمت إلى الولايات المتحدة في شباط الماضي لإطلاق جزء يسير من احتياطها الاستراتيجي البالغ 490 مليون برميل الذي يكفي لتغطية نحو 50 يوما من الاستهلاك.
إلا أن الصين قررت هذه المرة عدم الانضمام إلى الجوق الصناعي الغربي للاتكاء على الاحتياطي الاستراتيجي، وهذا ليس عسيرا للتفسير حيث سياسة بكين جلية في اتخاذ موقف غير مبال للحزمة الشديدة من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على روسيا.
في السابق، كان انخفاض طفيف في المخزون الاستراتيجي الأمريكي الأكبر في العالم يؤثر إيجابيا في الأسعار.
بعد نحو ستة أشهر، ستخسر الولايات المتحدة 180 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي البالغ حاليا 564.6 مليون برميل، بمعدل مليون برميل كل يوم، أي أكثر بقليل من ثلث المخزون الاستراتيجي.
تسمح القوانين الأمريكية للرئيس الأمريكي السحب من المخزون الاستراتيجي تحت شروط لا بد من تلبيتها منها وجود خطة للتعويض عن البراميل المسحوبة بأقرب فرصة ممكنة.
وبنظرة عابرة نلحظ أن القرار الكبير الذي اتخذه الرئيس الأمريكي جو بايدن بالإفراج عن كميات كبيرة من المخزون الاستراتيجي لم يرو عطش العالم للنفط، رغم الانخفاض النسبي للأسعار في الآونة الأخيرة.
ويبدو أن الظروف التي تمر بها أسواق النفط مختلفة تماما، ولهذا فإن إغراق الأسواق بنحو مليون ونصف المليون برميل يوميا فجاءة بقرار سياسي للسحب من المخزونات الاستراتيجية النفطية للدول الصناعية الغربية، لم يكن له الأثر المتوقع.
إن قرارا مثل هذا تتلقى فيه الأسواق مليون ونصف المليون برميل إضافيا في اليوم بغتة كان سيكون له وقع الصاعقة في الظروف العادية.
الأسعار لا تزال قريبة من 100 دولار وكثير من المحللين يعزون الهبوط الذي حدث أخيرا للأسعار إلى أسباب أخرى أيضا منها إغلاق مدن كبيرة في الصين نتيجة تفشي الوباء، وهذا بطبيعة الحال أمر وقتي.
إن كان ضخ مليون ونصف المليون برميل إضافي إلى الأسواق فجاءة لم يغير كثيرا في الأسعار، ماذا يمكن أن يحدث بعد ستة أشهر من الآن، أي عندما تتوقف هذه الدول عن سحب براميل إضافية من مخزونها وتعمل جاهدة لتعويض ما خسرته بشراء مزيد من البراميل؟.
أرى أننا مقبلون على ظروف ربما لم نشهدها سابقا، يظهر فيها النفط سلاحا استراتيجيا ذا حدين، حد منه قد تراه عاملا مساعدا في المعركة، ولكنه مرحلي وآني، وحد آخر ينسف بخفاء كل ما تبنيه من استراتيجية.
وهذا ما أتوقع أن تجنيه الدول الغربية الصناعية التي هرعت، دون أخذ كثير من الأمور في الحسبان، إلى مخزوناتها الاستراتيجية في محاولة منها لتعظيم العرض وخفض عبء الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة على اقتصاداتها.

إنشرها