غاز النيون يتبخر مع الأزمة الأوكرانية .. مشهد صناعة الرقائق يزداد تعقيدا

غاز النيون يتبخر مع الأزمة الأوكرانية .. مشهد صناعة الرقائق يزداد تعقيدا
غاز النيون يتبخر مع الأزمة الأوكرانية .. مشهد صناعة الرقائق يزداد تعقيدا
خبراء يخشون أن يكون لنقص الرقائق تأثير الدومينو على صناعات السيارات والهواتف.

عندما قصفت القوات الروسية أوكرانيا إيذانا ببدء التدخل الروسي واسع النطاق، كان من بين الأهداف الأولى مدينة أوديسا على البحر الأسود، حيث أحد أكثر موانئ العالم ازدحاما بالسفن، كما أنها أيضا موطن لشركة غير معروفة كثيرا في الإعلام تسمى "كريون"، تلعب دورا كبيرا في الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية.
شركة كريون تصنع غاز النيون وبعض الغازات الأخرى، لكن غاز النيون يحتل أهمية خاصة في إنتاج الشركة، فهو مادة تستخدم لتشغيل أشعة الليزر التي تحفر على الرقائق الإلكترونية.
الشركة الأوكرانية تقوم بتزويد عديد من الاقتصادات الأوروبية بغاز النيون وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية والصين وتايوان، فهو من بين المواد الأساسية والضرورية في صناعة الرقائق الإلكترونية، لكن العميل الرئيس للشركة الذي يصدر إليه معظم الإنتاج هو الولايات المتحدة الأمريكية.
أشباه الموصلات بمنزلة العقول التكنولوجية التي تعمل في هواتفنا وأجهزة الكمبيوتر والسيارات، والآن في التصميمات الهندسية لما يعرف بالمنازل الذكية، حيث تتحكم في كل شيء في المنزل عبر إنترنت الأشياء، وربما لم يأت الخطر الذي يحيق بشركة كريون الأوكرانية، في وقت أسوأ من هذا لصناعة الرقائق الإلكترونية التي تمر بأوقات عصيبة لتلبية الطلب العالمي.
وفي العام الماضي أدى نقص أشباه الموصلات إلى تقييد الإنتاج لدى جميع المنتجين الرئيسيين في عالم السيارات تقريبا، وفي بعض الأحيان وصل النقص إلى المستوى الذى دفع شركة جنرال موتورز إلى إغلاق بعض مصانعها بالكامل.
بينما قامت شركة أبل وهي واحدة من أكبر مشتري الرقائق في العالم بإبلاغ الشركات المصنعة لمنتجاتها في أكتوبر الماضي، بأنها ستقوم بخفض إنتاجها من جهاز آيفون بنحو عشرة ملايين جهاز، عما كان مخططا إنتاجه في 2021 بسبب نقص الرقائق الإلكترونية، الآن ومع التدخل الروسي في أوكرانيا يزداد المشهد تعقيدا.
من جانبها، قالت لـ"الاقتصادية" لورين سميث، المهندسة في شركة "أيه إي أي" البريطانية لصناعة الرقائق الإلكترونية، إن "صناعة أشباه الموصلات على مستوى العالم في أوضاع شديدة التوتر، بسبب احتمال نقص مواد أساسية كما حدث في 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، فحينها ارتفعت أسعار غاز النيون 600 في المائة نتيجة الخطوة الروسية حينها".
وأضافت "قبل التدخل الروسي في أوكرانيا أخيرا، ضغطت الحكومة الأمريكية والتايوانية على مصنعي الرقائق الإلكترونية في الدولتين لإيجاد مصادر بديلة لغاز النيون وخفض الاعتماد على أوكرانيا، فبعض التقديرات تشير إلى أن نصف غاز النيون في العالم يأتي من هناك، حيث تم بناء تلك الصناعة للاستفادة من الغازات التي تخرج كمنتجات ثانوية من صناعة الصلب الروسية".
وأوضحت سميث، أنه "في 2014 عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم، كانت شركات أشباه الموصلات في العالم أكثر اعتمادا على أوكرانيا مقارنة بالوضع الآن، ففي ذلك الحين كانت مصانع أوديسا توفر 70 في المائة من الإنتاج العالمي من غاز النيون، وحينها انخفض الإنتاج بسبب نقص المواد الخام اللازمة لصناعة غاز النيون ذاته، فروسيا كانت تركز في ذلك الوقت على المجهود الحربي وليس على صناعة الصلب، كما حدثت اختناقات تجارية نتيجة ارتباكات في سلاسل التوريد، وفي أعقاب ضم القرم قامت صناعة الرقائق الإلكترونية على مستوى العالم بتنويع إمداداتها أو البحث عن تقنيات بديلة تؤدي إلى تقليل استهلاكها من الغاز".
وفي الوقت الجاري، لا يتوقع بعض منتجي الرقائق الإلكترونية أن تؤثر فيهم الحرب الأوكرانية بشدة، فالمنتجون في كوريا الجنوبية وتحسبا لتلك الحرب قاموا بتخزين كمية كبيرة من المواد الخام خاصة غاز النيون قبل الحرب، بينما أعلن وزير الاقتصاد والتجارة الياباني أن صانعي الرقائق اليابانيين لن يتأثروا كثيرا لأن اليابان تستورد 5 في المائة فقط من الغازات المستخدمة في إنتاج أشباه الموصلات من أوكرانيا، وأشار إلى أن شركات بلاده أبرمت عقودا مع منتجين آخرين قبل اندلاع الأزمة.
لكن الأمر لا يبدو بهذه السهولة من وجهة نظر منتجين عالميين أساسيين في صناعة الرقائق الإلكترونية.
هنا يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور أوسكار نوح، أستاذ التقنيات الحديثة في جامعة أكسفورد، "على الرغم من أزمة 2014 عند ضم شبه جزيرة القرم، والتدابير التي اتخذت من قبل مصنعي الرقائق الإلكترونية على مستوى العالم، لخفض الاعتماد على أوكرانيا، لا يزال غاز النيون الأوكراني يلعب دورا رئيسا في الصناعة".
وذكر نوح أن "شركة ASML الهولندية وهي إحدى الشركات الرائدة في مجال الابتكار في صناعة أشباه الموصلات، وتزود صانعي الرقائق الإلكترونية بكل ما يحتاجون إليه من أجهزة وبرامج وخدمات لإنتاج أنماط ضخمة على السيليكون، تعتمد على أوكرانيا وروسيا لتوفير أقل قليلا من 20 في المائة من احتياجاتها من غاز النيون".
وأشار إلى أن "كميات هائلة من الواردات تأتي إلى الولايات المتحدة من روسيا وأوكرانيا، ويمكن أن تصل إلى ما يراوح بين 80 و90 في المائة من جميع واردات غاز النيون، كما أن الحصول على احتياجاتها من مكان أخر أو مصادر بديلة أمر لا يعد سهلا، ومن ثم تدهور الوضع في أوكرانيا يعني أن صناعة أشباه الموصلات في العالم ستتعرض لضغط شديد، وهي بالفعل تحت ضغط قوي حتى قبل اندلاع القتال بين روسيا وأوكرانيا، بسبب الطلب المفرط نتيجة جائحة كورونا".
ونوه نوح بأن "الإنتاج الراهن من غاز النيون على المستوى العالمي وصل إلى الحد الأقصى، ولا يوجد فائض في المعروض من هذا النوع من الغاز، ومن ثم إذا استمر الصراع فإن شركات إنتاج الرقائق الإلكترونية في تايوان وكوريا الجنوبية واليابان والصين ودول أخرى ستشعر بالتأثير سواء في ارتفاع الأسعار أو في طول المدى الزمني لتلبية الطلب".
وفي الواقع فإن بعض الخبراء يخشون أن يكون لنقص أشباه الموصلات في الأشهر المقبلة تأثير ما يعرف بنظرية الدومينو، حيث ستشهد صناعات مثل السيارات والأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية وغيرها من المنتجات التي تعتمد على تلك الرقائق الإلكترونية ارتفاعا كبيرا في تكاليف الإنتاج مع تراجع في الإنتاج في الوقت ذاته.
لكن البروفيسور هاورد أوليت أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة كامبريدج، يرى أن الأزمة الراهنة في سوق أشباه الموصلات ستنجم عنها تغييرات جذرية في موازين القوى داخل السوق، وهو أمر - من وجهة نظره - وإن كان يسبق التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، فإن الحرب وتبعاتها ستؤدي إلى تسارعه.
وقال أوليت لـ"الاقتصادية"، إن "شركة إنتل الأمريكية العملاقة لصناعة الرقائق تبدو الآن أضعف مما كانت عليه في الماضي، بينما تعزز وضع منافسيها، فالشركة تحقق الآن أرباحا أقل مما كانت عليه قبل عام، مع انخفاض صافي الدخل 21 في المائة على أساس سنوي إلى 4.6 مليار دولار، وهذا الاتجاه سيستمر ويتواصل في الأعوام المقبلة".
وفي الواقع فإن شركة إنتل كانت أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم حتى 2021، عندما تخلت عنها شركة سامسونج، وعلى الرغم من أن المنتج الرئيس لشركة سامسونج هو رقائق الذاكرة، وهي منتج مختلف عن معالجات "إنتل"، إلا أن تخلي "سامسونج" عنها كان مؤشرا إلى تراجع الشركة التي تحتل الآن المرتبة 16 عالميا في قطاع التكنولوجيا.
ويرى البروفيسور هاورد أوليت أن شركة إنتل - وفقا لتصريحات رئيسها التنفيذي - لم تطور تكنولوجيتها منذ خمسة أعوام، وأن هذا الوضع سيزداد تعقيدا في ظل الاضطراب العالمي الراهن نتيجة تأثير نقص غاز النيون في الصناعة عموما.
وأشار إلى أن "الأزمة الحالية بسبب نقص غاز النيون القادم من أوكرانيا، الذي تعتمد عليه الشركات الأمريكية أكثر من المنافسين الآخرين في تايوان وكوريا الجنوبية وحتى اليابان، يعني تعرضها لضغوط تنافسية شديدة تتطلب إعادة ترتيب أوراقها الداخلية، تلك الضغوط موجودة أيضا لدى منافسيها، لكن بدرجة أقل كثيرا، وهذا يفتح الباب للمنافسين خاصة في تايوان لتبوء المركز القيادي في الصناعة على حساب إنتل الأمريكية".

الأكثر قراءة