Author

روسيا تخلط أوراق اقتصاد العالم

|

بقرارها التدخل في أوكرانيا، خلطت روسيا أوراق اقتصاد عالم مضطرب أصلا واقتصاديات لم تفق بعد مما تسببت فيه جائحة كورونا من إنهاك وضمور. ارتفاعات في أسعار النفط، وانقطاع صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، وخسائر في أسواق الأسهم، وصعود أسعار الدولار الأمريكي، وانهيار الروبل الروسي، وعقوبات على كيانات وشخصيات روسية، وحرمان موسكو من التكنولوجيا الغربية المتطورة، وخراب ودمار في البنية التحتية الأوكرانية، واضطراب في العلاقات الدولية والمواصلات العالمية. هذه فقط أمثلة أولية بسيطة لنتائج التدخل وآثاره وتداعياته غير أن الأوضاع حبلى بمزيد من الآثار المدمرة، خصوصا إذا ما كان في جعبة قادة الكرملين مخططات سرية أخرى لتنفيذ ما يرونه حقا أمنيا واستراتيجيا من حقوق بلادهم الطامحة لاستعادة أمجاد زمن سوفياتي غابر، ودور عالمي مواز لدور الولايات المتحدة.
جملة القول، إن العالم يمر بمنعطف خطير غير مسبوق منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد يتطور الأمر بصورة أسوأ من كل التصورات والاحتمالات في حال إقدام قوى أخرى على الاحتذاء بما فعلته روسيا. هذه القوى، بطبيعة الحال، كثيرة ولم تخف يوما تطلعاتها لجهة فرض هيمنتها على جاراتها تحت ذرائع وأسباب عديدة، كالحق التاريخي والجغرافي، وضرورات الأمن القومي، وعودة الفرع إلى الأصل، واجتثاث الحركات الانفصالية، وغيرها. وبعبارة أخرى، فإن ما حدث لأوكرانيا في غمضة عين وأمام مرأى ومسمع المجتمع الدولي قد يغرى بكين باستعادة تايوان، وكوريا الشمالية بشن حرب على كوريا الجنوبية مثلا. أما الآثار المدمرة لمثل هذه التحركات والقرارات في مستقبل الشعوب وأمنها ورفاهيتها فلا قيمة لها، بل تهون في سبيل تحقيق "تطلعات القائد الملهم" أو "تمريغ أنف العدو في الوحل" أو الانتقام من "الشيطان الأمريكي". ولا بأس بإضفاء نعوت ذي جاذبية لدى البسطاء على الحدث مثل "النصر الإلهي"، أو"أم المعارك" أو "القرار التاريخي".
ما يعنينا هنا هو أنه منذ اندلاع أزمة أوكرانيا، قبل تطورها إلى حرب وقصف وتدخل مسلح، لم يكتب سوى القليل جدا حول آثارها وتداعياتها المحتملة في دول الشرق الأوسط العربية. صحيح أن الأخيرة بعيدة نسبيا عن ساحة الحرب، إلا أن الصحيح أيضا هو تداخل مصالح الشعوب والأمم في عالم لم تعد فيه الجغرافيا السياسية حائلة دون تأثر دولة بما يقع في أخرى. فعلى سبيل المثال، كانت لعملية الحرب على أوكرانيا آثار إيجابية وأخرى سلبية في الدول العربية في مسألة حجم الصادرات أو الواردات، لكن في المقابل من المحتمل بل من المؤكد أن تتضرر الاتفاقيات التجارية والاستثماراتية والدفاعية التي أبرمتها بعض الدول.
من ناحية أخرى، نجد أن الحدث الأوكراني ساعد على زيادة الطلب على واردات الغاز من بعض الدول المصدرة له، لتعويض نقص إمدادات الغاز إلى أوروبا جزئيا، لكن في المقابل قد تعاني بعض الدول العربية، مثل مصر ولبنان ودول شمال إفريقيا العربية نقص القمح في أسواقها، خصوصا إذا ما كانت تعتمد في وارداتها من هذه السلعة الغذائية على أوكرانيا أو روسيا اللتين تمثل صادراتهما من القمح نحو 30 في المائة من السوق العالمية "يستورد اليمن وليبيا مثلا 22 في المائة و40 في المائة على التوالي من إجمالي استهلاكهما من القمح من أوكرانيا التي صعدت في العقد الأخير إلى احتلال المرتبة الثالثة عالميا في إنتاج القمح والمرتبة الرابعة في إنتاج الذرة". بطبيعة الحال، فإن البدائل متوافرة في أستراليا وكندا والولايات المتحدة، لكنها مكلفة سعرا وشحنا. إلى ذلك فإن التأثيرات السلبية للحدث قد تطول قطاع السياحة في دول عربية يعتمد قطاعها السياحي بنسب متفاوتة على السياح القادمين من أوكرانيا وروسيا. ففي مصر مثلا، يشكل نسبة السياح الروس والأوكرانيين نحو 40 في المائة من إجمالي السياح القادمين إليها من أوروبا، ولوحظ أن نسبة حجوزاتهم الملغاة وصلت إلى 35 في المائة، ما يعني العودة إلى الأوضاع التي عاناها القطاع السياحي خلال العامين الماضيين من جراء تفشي وباء كورونا.
ما يجب الانتباه له أيضا هو أن الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات عازمة على استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح للتعامل مع روسيا، وهذا من شأنه أن يفسد على موسكو مبيعاتها من النفط، فلن تجد أمامها سوى الأسواق الصينية لتسويق خامها بطرق ملتوية كما تفعل طهران، الأمر الذي قد يؤثر نسبيا في كميات النفط التي تستوردها بكين من دول أخرى.
بعيدا عن الآثار الاقتصادية للتدخل على الدول العربية، هناك الآثار السياسية حيث ستواجه صعوبات في حلحلة بعض الملفات العربية، كملفي سورية وليبيا، بسبب غياب الحد الأدنى من التفاهم الروسي ـ الغربي حول القضايا الإقليمية. هذا فضلا عن احتمال توجيه دفة معظم المساعدات الإنسانية الدولية الطارئة صوب مناطق النزاع في أوكرانيا، وبالتالي حرمان المنكوبين في مناطق الصراع أو في مخيمات النازحين السوريين في الأردن وتركيا من جزء من هذه المساعدات، ما قد يؤدي إلى مزيد من حالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.

إنشرها