تفريغ الذاكرة

كانوا يقولون "شي بلاش ربحه بين" وهو قول يدل على قصر النظر فليس هناك "شيء بلاش" لكل شيء ثمن، قد يكون ثمنا معجلا ملموسا أو مؤجلا لا تفقه تلك اللحظة قيمته، ربما يتبين الآن أكثر من أي وقت مضى خطأ تلك العبارة التي كنا نرددها وما زال البعض يفعل ذلك.. مع خدمات "مجانية" ظاهرا قدمتها وتقدمها المنصات والمواقع على شبكة الإنترنت المصيدة، كان ذلك منذ بداية خدمات البريد الإلكتروني المجانية بمساحات تخزين جذابة، ولم تكن وقتها "ملفات تعريف الارتباط، الكوكيز" على بال المستخدم ولم يستأذن في الارتباط إلا بعد صدور قوانين في الغرب أساسا، فالغرب خصوصا أوروبا أكثر حرصا على حقوق المستخدمين.
تم نسف عبارة "شيء بلاش ربحه بين" بعبارة جديدة حاسمة تقول: "إذا لم تدفع ثمن البضاعة فأنت البضاعة"، والمشكلة هنا في نوع وماهية الثمن المدفوع فهو ليس ثمنا مقطوعا، بل ثمن يتوالد في متوالية هندسية لا يستطيع المستخدم الفكاك منها بل يستمر في التلوي مقيدا بخيوط شبكة العنكبوت.
تحرص المنصات والمواقع على جمع المعلومات عن المستخدم آليا وهو حرص يتعدى معرفة التفضيلات والزيارات لجذب الإعلانات، إلى حثه على أن تكون ذاكرتها هي ذاكرته، فهي جاهزة مستعدة لحفظ أي شيء وكل شيء مما يزيد ارتباطه بها واعتماده عليها، ولو دققت في ذاكرتك الآن مقارنة بالسابق ربما لاحظت كيف تحولت إلى مقيد بجهاز ومنصة وتنبيهات، والمسألة أنه يتم تفريغ ذاكرتك بل وجعلها مع عدم ـ الاستخدام الأمثل ـ والاستناد على ذاكرتها.. مرتبكة، وغير موثوقة حتى في حفظ رقم هاتف أو رقم هوية وطنية.
وتبدو صورة إنسان المستقبل رغم كل دعاوى الحرية الشخصية وحرية الاختيار أنه مقيد أكثر من أي وقت مضى عاشه الإنسان على هذه الأرض، وليس باختياره حتى لو قيل هذا في معرض الرد لأن كل ما حوله مقيد أيضا وهو "عود من عرض حزمة" ومرتبط جبرا ببيئته المقيدة، مع هذا الواقع "المسير" هل يمكن للفرد الحفاظ على معلوماته "ولا يضحكون عليك" مع تضاءل استخدام ذاكرته وإدراجه واضطراره لإفشاء هذه المعلومات عند كل خدمة يحتاج إليها!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي