Author

الأتمتة والوظائف .. تحديات ومتغيرات

|

يواجه العالم خلال الفترة الأخيرة تحديات ومتغيرات في أسواق العمل، وذلك للتوسع الكبير، والانتشار المستمر في استخدامات التقنية، والأتمتة، والذكاء الاصطناعي، وتنفيذها بما يؤديه البشر في أداء الأعمال، وقد أصدر عديد من المنظمات الدولية دراسات، وتقارير معنية بمنظومة التحديات والمتغيرات التي ستواجهها أسواق العمل الإقليمية والدولية.
وأكد بحث نشرته اللجنة الدولية عن مستقبل العمل عام 2018، أن الموجة الحالية من التغيير التكنولوجي القائم على التطورات في الذكاء الاصطناعي AI، أنتجت مخاوف عميقة بشأن فقدان الوظائف، وزيادة عدم المساواة، نظرا إلى انخفاض تكاليف رأس المال مع إمكانية زيادة الإنتاجية، وأن هناك حاجة إلى أشكال جديدة من تنظيم الاقتصاد الرقمي من خلال مزيج من تقاسم الأرباح، وضرائب رأس المال "الرقمية"، والتخفيض في وقت العمل، فاللجنة الدولية لمستقبل العمل تدعو إلى التفاؤل بشرط أن يأخذ صانعو السياسات والشركاء الاجتماعيون هذه التطورات في الحسبان.
لكن للحقيقة، فإن الأجواء لا تبدو حميمية بين الآلات والعمال، وهذا وضع مقلق ولا شك، فلا يزال العمال يرون أنفسهم صناع القيمة، ولذلك يطالبون بحقهم في التوزيع، لكن مع وجود الآلة أصبح التفسير القديم بشأن دور العمال في العمل، وتبريرهم لحقوقهم يتضاءل كلما تدخلت الآلة أكثر في عملية الإنتاج، لهذا كله أصبحت فرضيات اقتصادية جديدة تدخل النقاش، مثل أن زيادة المنافسة بين البشر والآلات تؤدي إلى انخفاض الأجور واختفاء الوظائف.
تقرير اللجنة الدولية أوضح أن أكثر من 50 في المائة من الشركات ستخفض العمالة بدوام كامل بحلول 2022، وفي تقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا يظهر أن شركات مثل جوجل توظف أقل من عشر عدد العمال الذين اعتادت شركات كبيرة مثل جنرال موتورز توظيفهم في الماضي. ولا شك أن هذا يدخل النظرية الاقتصادية في مأزق، ولن يكون أقل من مآزق الفيزياء في بدايات القرن الماضي عندما فشلت نظريات من بينها نظريات نيوتن في تفسير الظواهر الجديدة، حتى ظهرت النسبية لتحل محلها، ثم ميكانيكا الكم لترسم خطوطا عرضية بين عالم الظواهر وعالم الذرة، فالمسألة الاقتصادية في بدايات هذا القرن تبدو كأنها تمر بالمنعطف نفسه، وكانت النظرية الاقتصادية السائدة تؤكد أن تطور الآلات يصنع وظائف أفضل، فالآلات الزراعية وتكنولوجيا الاتصالات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي أسهمت في نمو اقتصادي واسع. لكن الصورة الآن مختلفة، فمنذ ثورة الروبوتات في التصنيع، وظهور البرمجيات في كل شيء، وإنترنت الأشياء، تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي، وارتفع عدم المساواة، وشهد كثير من العاملين انخفاضا حادا في دخولهم الحقيقية، أي أن العلاقة الإيجابية أصبحت الآن علاقة عكسية.
وفي بحث لأحد أساتذة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأمريكي، أشار إلى أن الأتمتة الشاملة لم تعد مكسبا لكل من رأس المال والعمالة، بل مسؤولة عن 50 إلى 70 في المائة من أوجه التفاوت الاقتصادي التي حدثت في الفترة بين 1980 و2016. أيضا نلحظ حديث وزيرة الخزانة الأمريكية في مؤتمر "دافوس الافتراضي" الأخير، التي ذكرت فيه أن مكاسب الإنتاجية الحديثة المدفوعة بالتكنولوجيا قد تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة بدلا من التخفيف من حدتها، وبعبارات أكثر وضوحا ودقة، فإن نمو زيادة الإنتاجية الأمريكية 2.7 في المائة سيعود في الأغلب على أصحاب الدخل المرتفع، والعاملين ذوي الياقات البيضاء، وبالتالي فإن المشكلة الاقتصادية أصبحت عميقة، ولا تستطيع النظرية الاقتصادية الحالية تفسير الظواهر.
المشكلة أن الاقتصاد لا يعمل كما تعمل الفيزياء، فمشكلة الفيزياء في بدايات القرن الـ20 كانت في المعامل، بينما مشكلة الاقتصاد في القرن الـ21 في الأسواق، والأسواق لا تنتظر أحدا، فنموذج الأعمال القائمة على زيادة الأتمتة مبني على التخلص من العمالة البشرية، وفي نهاية المطاف ستتحول العلاقات الاقتصادية الجديدة إلى صراعات سياسية حول الضرائب، فالآلات لا تدفع ضريبة، ولا تمنح أصواتا في البرلمانات.
السؤال الاقتصادي الصعب حاليا يكمن في كيفية إعادة ربط ثروات رأس المال والعمل، ومع ذلك فإن هناك معالجة ولو أنها لا تبدو فاعلة حتى الآن لكنها حل وسيط، فكما أشار أستاذ معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأمريكي في شهادته إلى أن المحفظة الاستثمارية التكنولوجية للاقتصاد الأمريكي ضارة للغاية بالعاملين، خاصة العمال ذوي التعليم المتدني، فالتعليم إذن هو أداة الإصلاح، كما أوضح باحثان في جامعة هارفارد، وهذا هو السبب الذي جعل إدارة بايدن تدفع بالاستثمارات في كلية المجتمع وبرامج التدريب المهني وتدريب العمال.

إنشرها