Author

آفة التضخم في فترة حرجة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"ليست لدينا نية لتعليق مفاجئ لحزم الدعم للاقتصاد، سنقوم بذلك تدريجيا"
كريتسن لاجارد، رئيس النبك المركزي الأوروبي
الأسئلة تتزايد يوما بعد يوم، حول طبيعة السياسة المالية التي ستتبعها الدول في العام المقبل، خصوصا في ظل انتشار سريع لمتحور أوميكرون الذي أعاد بعض القيود للحراك الاجتماعي والاقتصادي، بل دفع بعض الدول إلى إغلاق شبه كامل، وفرض إجراءات مشددة على حركة السياحة والسفر والنقل، منها وإليها. في منتصف العام الماضي، وقف البنك المركزي الأوروبي ضد أي محاولات لخفض وتيرة شراء السندات التي تمول بها حزم الدعم المالي منذ تفشي وباء كورونا. حتى عند الحراك إلى مستويات لافتة، ظل موقف المسؤولين في هذا البنك على حاله، ويمكن تلخيصه بضرورة الإبقاء على هذه الحزم رغم كل المخاطر الناجمة عنها على صعيدي ارتفاع الديون والتضخم، ولا سيما إذا ما استمرت لوقت أطول مما هو مخطط له. الأمر يكاد يتطابق بالنسبة لعدد آخر من واضعي السياسات الاقتصادية الذين يرون أن هناك مساحة غير واضحة بين الانكماش العالمي الذي ساد العام الماضي، والتعافي والنمو. وزاد الأمر تعقيدا، الموجة المتعاظمة من المتحور الجديد، الذي بدأ يؤثر سلبا في الأداء الاقتصادي العام، رغم أنه لم يظهر إلا منذ فترة قصيرة جدا. منذ انفجار كورونا ضخت البنوك المركزية في الأسواق حول العالم 32 تريليون دولار، أو ما يساوي شراء 800 مليون دولار من الأصول المالية كل ساعة، على مدى 20 شهرا. في ظل هذا التضخم المالي، زادت القيمة السوقية للأسهم العالمية 60 تريليون دولار، بحسب بنك أوف أمريكا. لم يكن أمام الحكومات سوى الإقدام على طرح حزم الإنقاذ أو المساندة، لأنها لا تستطيع أن تتحمل انهيارات حتمية لاحقا، تعمق الانكماش الذي ضرب العالم.
العالم يتجه حاليا بالفعل إلى ما وصفه عدد من الاقتصاديين بإغلاق صنابير المال في العام المقبل، إلا أن حالة عدم اليقين الراهنة على الساحة الدولية التي أوجدها أوميكرون، واحتمالات ظهور متحورات أخرى في العام المقبل دفعت المسؤولين هنا وهناك للتفكير مليا في إغلاق الصنابير، مع قناعتهم بأن حزم الإنقاذ عبر شراء الأصول بكميات كبيرة، رفعت من مخاطر ضربات عنيفة من جانب التضخم الذي بدأ يسيطر شيئا فشيئا على الساحة العالمية. ففي الولايات المتحدة مثلا بلغ التضخم أعلى مستوى له منذ أكثر من ثلاثة عقود، وفي بريطانيا قد يصل إلى 6 في المائة مطلع العام المقبل، وفي الاتحاد الأوروبي بلغ 3.4 في المائة، في حين تحدد الهدف الأقصى له عند المشرعين الاقتصاديين بـ 2 في المائة.
التضخم أو ارتفاع الأسعار لا يختلف عن آفة تخشى منها الحكومات، ولا سيما في ظل وجود أزمات اقتصادية، أو عدم وضوح الرؤية حول مستقبل الاقتصاد على المدى القصير. فالاقتصاد العالمي لا يزال تحت ضغوط الجائحة، رغم أنه حقق قفزات نوعية في مواجهتها، إلا أنها لا تزال أقل مما هو مطلوب للقضاء عليها، أو للتعاطي الطبيعي غير المؤذي معها أو مع متحوراتها. لكن يبدو واضحا أن البنوك المركزية هي الأخرى ترزح تحت ضغوط التضخم الذي ينبغي ألا يسيطر على الساحة بأي شكل من الأشكال. فالحفاظ على فائدة منخفضة اقتربت من الصفر في أغلب الدول صار صعبا، ومن أجل ذلك سيبدأ المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" بدءا من الشهر الثالث من العام المقبل، بإنهاء مشترياته من الأصول. بل هناك توقعات برفع الفائدة ثلاث مرات في العام المشار إليه.
لا أحد بإمكانه الجزم في مسألة تراجع التضخم في العام المقبل، مع ضرورة الإشارة إلى أن هناك وجهات نظر معاكسة، تستند إلى أن التحسن المتوقع في سلاسل التوريد، على اعتبار أنها سبب محوري لإمكانية انخفاض التضخم في العام المقبل، سيؤدي للسيطرة على أي نسبة من التضخم. وإذا ما صدق هذا الطرح، ستظهر مشكلة كبيرة على السطح، تتعلق بأن "الفيدرالي الأمريكي" وبقية البنوك المركزية الأخرى الرئيسة سترفع معدلات الفائدة في الوقت الذي سيتراجع فيه التضخم. إنها مسألة شديدة الحساسية ومعقدة في آن معا، كما أنها ترتبط بجانب سياسي حساس أيضا لأي حكومة، تسعى لأن تكون موجودة في السلطة لأطول فترة ممكنة، حتى لو كانت هذه الفترة مليئة بالمشكلات والأزمات الاقتصادية والصحية وما يرتبط بها.
وبعيدا عن أولئك الذين يعتقدون بارتفاع التضخم أو انخفاضه في 2022، فهذه الآفة الاقتصادية ستكون حاضرة على الساحة في الأسواق المتقدمة على الأقل لفترة، يعتقد بنك جولدمان ساكس الأمريكي أنها ستكون بحدود أربعة أعوام على الأقل. لكن كل شيء يبقى عالقا باستقرار الحراك الاقتصادي العالمي، بصرف النظر عن مستويات النمو، والأهم ألا يعود هذا الاقتصاد إلى الانكماش الذي ساد الساحة العام الماضي. فالخروج من هذا الانكماش بحد ذاته كان انتصارا، وما يتحقق من نمو بعد ذلك، يمكن أن يسهم في التعافي أو العودة إلى الوضعية التي كان عليها العالم قبل الجائحة.
إنشرها