كفاءة مالية برؤية تنوعية

تضمنت الموازنة السعودية التي صدرت أمس الأول أرقاما مميزة لتتواكب مع خطط الدولة الاقتصادية التنموية وفق خطة رؤية المملكة العربية السعودية 2030 وطموحاتها الواسعة في تحقيق الرخاء الاقتصادي. واشتملت موازنة العام المالي 2022، وكما هو معتاد اعتماد المصروفات وتقدير الإيرادات، حيث نص المرسوم الملكي أن تقدر الإيرادات بمبلغ 1,045 مليار ريال وتعتمد المصروفات بـ 955 مليار ريال، ولا شك أن الفرق بين كلمة تعتمد وكلمة تقدر فرق واضح، فالمالية العامة تقوم على مبدأ عمومية المصروفات والإيرادات، فلا يرتبط أي منها بالآخر، بمعنى أن حجم الإيرادات يقدر بحسب ظروف الاقتصاد والأسواق العالمية، بينما تعتمد المصروفات وفقا لما هو مبرمج من خطط وبرامج، وعلى هذا فإن ما هو مبرمج تم تحديده بدقة كبيرة ولذلك فهو معتمد التنفيذ فورا، ولهذا يعني أن أولوية العمل تأتي لمصلحة المصروفات المعتمدة، ويتم تمويلها أصلا من إيرادات العام نفسه لمقابلة إيرادات كل عام بمصروفاته، وإذا حدث وزادت الإيرادات في أي شهر أو فترة خلال العام عن مصروفات تلك الفترة يتم تحويل الفائض للاحتياطيات، وإذا نقصت الإيرادات لأي ظرف اقتصادي يتم السحب من الاحتياطيات لتغطية المصروفات.
و من هذا تفهم عبارات مثل تقدر الإيرادات ويقدر الفائض، ذلك أن الأصل في الموازنة العامة للمالية العامة هو ضمان حق المصروفات أولا، ولأن هذه هي الحال عموما فإن معظم الدول في العالم تتجه لميزانية تقشفية عندما تتراجع تقديرات الإيرادات، ورغم أن هذا النهج متبع وله أصوله ويحفز عليه صندوق النقد الدولي إذا واجهت الدول أزمات اقتصادية، إلا أن توجيهات خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز منذ أن استلم مقاليد الحكم تؤكد الاستمرار في موازنات النمو، وبالتالي استمرت الميزانية العام للدولة في الإنفاق السخي رغم التراجع الكبير في الإيرادات منذ عام 2014 نظرا لتراجع أسعار النفط، حيث قفز الإنفاق من 830 مليار عام 2016 ليصل إلى الفعلي عام 2020 إلى 1,068 مليار ريال، ومن المتوقع أن يصل الفعلي من المصروفات لعام 2021 إلى نحو 1045 مليار ريال. هذا الاتجاه نحو تعميد المصروفات يؤكد عزم القيادة على استدامة التنمية، وتحقيق مستهدفات رؤية 2030، وتحسين حياة المواطن، كما يعكس إصرار السعودية على النجاح، وتحويل التحديات والأزمات إلى فرص وإيجابيات.
لقد كان انخفاض أسعار النفط عام 2014 تحديا ضخما جدا، ذلك أن الأسعار تتراجع بحدة، في مقابل اعتماد شبه كلي على إيرادات النفط لتمويل المصروفات، ولهذا ارتفع حجم العجز بصورة كبيرة في الأعوام ما بين 2014 و2015 قبل أن يتم إطلاق الرؤية التي أطلق معها خادم الحرمين الشريفين خطة الإصلاح الاقتصادي مع تكريس مبادئ الشفافية، والإفصاح، ومكافحة الفساد، كأهم مرتكزات تحقيق مستهدفات الرؤية. تلك الرؤية التي حملت في بداياتها تحديات التحول الوطني، وبرنامج التوازن المالي لتحقيق إصلاحات الهيكلية، ورفع كفاءة إدارة الحكومة للموارد، وهذا ما تعنيه عبارات تحويل الأزمات إلى فرص، وإيجابيات. وكان تراجع الأسعار وتضخم العجز في فترة قياسية محفزا للجميع لإحداث نقلة اقتصادية شاملة لتحقيق الأهداف الطموحة.
واليوم تنعم بلادنا باستقرار المالية العامة رغم المشهد العالمي المضطرب نتيجة استمرار تفشي فيروس كورونا، حيث أكد خادم الحرمين الشريفين في كلمته بمناسبة صدور الموازنة العامة لعام 2022 حرص القيادة على استمرار تقديم الخدمات والارتقاء بها، لتصل إلى تطلعات المواطنين، والتحسين المستمر في جودة الحياة، ورفع مستوى الشفافية وكفاءة الإنفاق، وتعزيز معدلات النمو، وهذا الأمر يؤكد أن الإنسان السعودي كان ولم يزل المحور الأول للتنمية.
توجيهات الملك سلمان بن عبدالعزيز واضحة بشأن استمرار تقديم الخدمات والارتقاء بها، وقد عكس الأمر السامي الكريم ذلك بوضوح، في حين جاء حديث ولي العهد بمناسبة إعلان الموازنة العامة لعام 2022 ليؤكد متابعته الدقيقة في تنفيذ هذه التوجيهات، ما عزز من سلامة المسار الإصلاحي الذي يتم انتهاجه. إجراءات ضبط الإنفاق العام وترشيده من أكبر التحديات التي واجهت المالية العامة منذ عقود، لكن الإصلاحات الهيكلية التي رافقت برنامج التحول الوطني أسهمت في تعزيز دور كفاءة الإنفاق الحكومي.
ولي العهد أشار في حديثه إلى أن السعودية تمكنت من تحقيق فوائض مالية بفضل التزامها بالإنفاق الرشيد، وفق ما خطط له، ورفع كفاءة الإنفاق من خلال تطوير التخطيط المالي، والاستخدام الأمثل للموارد، وتنويع مصادر مستقرة للإيرادات الحكومية، الأمر الذي انعكس في تدعيم مستهدفات الاستدامة المالية، وأسهم في دعم الاستقرار الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل، ما يعزز مستوى التفاؤل بمستقبل أكثر نماء وازدهارا للوطن والمواطنين.
هذا هو المعني الحقيقي لتحويل الأزمات إلى فرص، فالعزم على إحداث نقلة نوعية في الاقتصاد السعودي كانت سمة من سمات القيادة الحكيمة لكل الملفات الاقتصادية، وأسهمت في نقل الاقتصاد السعودي نحو تنوع واسع في الإيرادات غير النفطية التي حققت قفزات تاريخية، وأصبحت تسهم في تمويل المالية العامة حيث ارتفعت من 127 مليارا عام 2014 من مصادر غير مستدامة عموما إلى نحو 372 مليارا عام 2021، ومن مصادر تتسم بالاستدامة.
كما صاحب هذه الإصلاحات نقلة نوعية في الصادرات السعودية، وبالتالي فإن إعلان ميزانية 2022 جاء مواكبا لتطلعات القيادة، من خلال النتائج المتميزة للإصلاحات الاقتصادية والمالية الناجحة، في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية، والاستدامة المالية، مع التركيز على تعميق الأثر، وإشراك القطاع الخاص في رحلة التحول، لإحداث النقلة النوعية، مع المراجعة الدورية للاستراتيجيات والسياسات والبرامج والمبادرات لتفعيلها وتصحيح مسارها، ما يؤكد أننا أمام عملية حيوية ديناميكية لن تتوقف إلا بالوصول إلى أهداف الرؤية التي تلبي تطلعات جميع المواطنين في غد مشرق ومجتمع حيوي واقتصاد مزدهر.
السياسة الحكومية كانت تستند إلى إحداث إصلاحات اقتصادية وبنيوية في هيكل العمل الحكومي، وتحويل أزمة تراجع أسعار النفط عام 2014 إلى فرصة للتحفيز، وإحداث نقلة نوعية في أساليب العمل، مع الحفاظ على مستويات المعيشة وعدم تأثر المواطن بصورة سلبية نتيجة هذه النقلة الكبيرة. ومع تحقيق المستهدفات اليوم فإن ولى العهد يؤكد أن صحة الإنسان تقع على رأس أولويات الدولة وذلك عبر توجيه فوائض الميزانية لزيادة الاحتياطيات الحكومية تحسبا لاحتياجات جائحة كورونا نظرا لأن تحدي الجائحة لا يزال قائما حتى الآن.
كما حمل حديث ولي العهد بمناسبة صدور أرقام ميزانية 2022 التأكيد أن للمواطن دورا حيويا في التنمية الاقتصادية، وأنه شريك في الإنجازات، خاصة مشاركة المرأة السعودية، إلى جانب توجيهه بأن يتم توظيف الفوائض لتقوية المركز المالي للسعودية، ورفع قدراتها على مواجهة الصدمات والأزمات العالمية، وحرصه على الأجيال المتعاقبة، وعدم تركيز الجهود على الحاضر فقط، مع التخطيط الاستراتيجي لأن يبلغ الإنفاق 27 تريليون ريال حتى عام 2030 كأكبر حجم إنفاق تشهده السعودية في تاريخها، لذلك فإننا مستمرون بكل فخر في طريق العمل والإصلاحات الطموحة للوصول إلى نمو اقتصادي مستدام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي