Author

عندما ينقاد العالم للمجاعة والموت

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
وقع البحث العلمي لعدة قرون في أسر تعاليم نيوتن في عالم الفيزياء وطريقته للمعرفة وإثباتها، فلقد بدا الكون (كل الكون) وفي تلك التعاليم كأنه آلة تعمل وفق قواعد حتمية ليس للإنسان فيها من دور سوى الرضوخ لهذه الحتمية المطلقة مع محاولات يائسة لفهمها واكتشاف القوانين والاستفادة منها إلى أقصى حد. تلك الحتمية التي أنجبت جيلا صار من العلماء تحلقوا حول أفكار هيوم، وأنكروا وجهلوا كل عبارة علمية مستقلة عن الحواس كل جهد إنساني وأي علم لديه لم يأت وفقا لهذه القاعدة بل عدوا ذلك العلم كارثيا ويجب أن يلقى به في النار.
هكذا تم إعلان ولادة المادية الحتمية التي قصرت المعرفة الإنسانية في المحسوس من المادة أو ما تنتجه مادة العقل من علاقات منطقية. لم تكن مصيبة فكر هيوم لتقف هنا، فقد أصبحت العواطف الإنسانية وما يحمله المجتمع والإنسان من معاني الخير بلا قيمة علمية، ولم يعد لها مكان في العلم طالما ليست لها وسيلة حسية في الواقع، والمجتمعات وتنوعها وأعرافها ونماذجها في الحياة لا تدخل ضمن قواعد العلم وتبرير المعرفة، بل ذهب العلماء الذي اقتفوا أثر هيوم إلى التشكيك في أن تنوع المجتمعات يشوه المعرفة الإنسانية، فظهرت مجموعة علماء دائرة فيينا الذين قادهم شليك عام 1922، وبقدارتهم المنطقية الهائلة صاغوا للعلم لغة وقواعد ملزمة وأسسا ومعايير موحدة، وأي معارضة لذلك أو تشكيك فيه يعني الظلامية والتخلف والعجز وفي أحسن الأحول أساطير خارج إطار العلم.
وظهر جيل آمن بالعلم الفيزيائي وقدراته الخارقة حتى ظهرت دعوات لإمكانية إيجاد لإنسان في فكرة فرانكشتاين، وكي تنجو العلوم الأخرى من هذا المأزق كان عليها أن تقتفي آثارهم ليتم الاعتراف بها وبما تنشره من معرفة ومن بينها علما الاقتصاد والاجتماع خصوصا، فظهرت حتميتان اقتصادية واجتماعية ترى العلاقات في المجتمعات حتمية كما الآلات في الميكانيكا وكمثل حركة الأفلاك، وظهرت نماذج في غاية الخطورة من مثل نماذج فكر لينين وماو الاجتماعية التي كانت لها آثار مدمرة، وظهرت أيضا نماذج الرأسمالية الحتمية للسوق التي انتهت جميعها بمجاعات مرعبة عمت العالم من الصين التي قضى نحو 20 مليونا نحبهم في تتبع لنماذج ماو الحتمية، وهلكت دول الاتحاد السوفياتي في فقر وموت بطيء، وانتهت أوروبا والولايات المتحدة في الكساد والبؤس لعقود، قبل أن تظهر للعالم نسبية أينشتاين ويكتشف العالم مدى هشاشة العقل الإنساني وهو يؤمن بخرافات المنطقية الحتمية التي فشلت حتى في تفسير ظواهر الفيزياء النووية، لقد انتهى ذلك العصر بلا عودة مع عبارات من مثل كل شيء نسبي وكل شيء يمكن أن يكون صحيحا حتى الخيال، ومع تطور مفاهيم جديدة اجتماعية واقتصادية نجا العالم عدة مرات من أزمات اقتصادية كالأزمة المالية عام 2008 وأزمة كورونا اليوم التي لو كانت في زمن الحتمية العلمية لهلكنا جميعا، لكن هل فعلا أصبح العالم في مأمن؟
ما الخطأ الذي ارتكبه العالم في بدايات القرن وأدى لكل تلك المآسي التي سجلها التاريخ في صور الموت والجوع والحرب؟ لقد كان الجزم والإيمان المطلق بوجود لغة مجردة للعلم وطريقة واحدة لا مناص عنها، ومنهج واحد للحضارة، وطريق وحيد للتقدم لا حياد عنه، حتمية قاسية أخضعت الشعوب لحكم العقل المنطقي والتجربة الحسية التي لا يعلمها إلا عدد محدود ممن تم تدريبهم عليها، وهم وحدهم الذين لهم حق تفسير كل شيء وإنتاج قوانينه والخروج عنهم ظلامية وتخلف. لقد نجا العالم منها بعد هلاك الملايين، فهل يمكن أن يعود لذلك الخطأ؟ إجابتي هي نعم، وللأسف بل إن هذا وشيك جدا مع تنامي الدعوات لحلول تقنية لكل شيء تقريبا، فلقد استبدلنا العقل الإنساني الذي أراد أن يتحكم في مصير النفس الإنسانية وعقلها وقرارات المجتمعات وتنوع ثقافاتها، استبدلناه بعقل إلكتروني لا يفهم لغته إلا عدد محدود ممن لديهم تلك الإمكانات الذهنية المنطقية للآلة، هكذا تعود المنطقية الحتمية بوجهها القبيح، لكل مناحي الحياة، وهكذا يعود صناع أفلام الخيال العلمي من مثل فرانكشتاين لفرض تصوراتهم على الإنسانية.
لقد عادت الإنسانية لتلك الحقب التي رأى فيها مجموعة علماء الفيزياء في فيينا أنهم وحدهم الذين يدركون الخطأ والصواب، وأنهم حراس العلم ومنقذو البشرية من الوهم والتكهن، وأن قوانينهم تقود للرفاهية والإنتاج الكبير، لكن كل تلك الادعاءات انتهت بمجاعات وحروب وموت أسود لملايين البشر، واليوم تعود أحلام المنطقية الحتمية بثوب التقنية والبرمجة ولغة الآلة لتعطل العقل الجمعي الإنساني وقضية التنوع الاجتماعي والحضاري، وتمنعه من اتخاذ قرارات ذات طبيعة إنسانية صرفة، وتقود المجتمعات للانصهار في عناد خطير للفطرة، وباسم التقنية تنقاد الشعوب نحو علاقات مفروضة في عالم افتراضي، صنعته الآلة وتفرض وجوده على العقل البشري كأنه حقيقة ملموسة ويمارس صناع هذه التقنيات تأثيرهم الهائل حتى في صناعة القوانين لجعل الإنسان يخضع لعمل هذه الآلات وأن يرفضها والخروج عن طاعتها يعني التخلف والرجعية وأحيانا الفساد، وبالعبارات نفسها التي استخدمتها المنطقية الحتمية في بدايات القرن الماضي وفي التاريخ نفسه أيضا ونحن نعبر 2022 كما عبرت المنطقية 1922، تعود المنطقية التقنية بالبشر للعالم المظلم نفسه، وستقودهم للمصير المطبق نفسه من المجاعات والحروب والموت.
إنشرها