Author

الفساد بترويض الرقابة الداخلية «2 من 2»

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
انتهى المقال السابق إلى أن وضع معايير دولية لنظم الرقابة الداخلية تكون صارمة وواجبة التنفيذ هو الحل لمشكلة تغلب الرئيس التنفيذي على نظم الرقابة، ولهذا فإن تحسن وضع الشركات في أي سوق مالية يعتمد على تبني قواعد ملزمة للرقابة الداخلية، ومع ذلك فإن القيم التي يقوم عليها الفكر في أي مؤسسة سيكون عاملا حاسما وقد تم تخصيص هذا المقال لهذه القضية الصعبة فعلا.
فمهما كانت قوة أنظمة الرقابة فإنها تقدم تأكيدا معقولا بخلو البيانات من الأخطاء والغش والتحريف الجوهري، وتأكيد معقول يعني أن أنظمة الرقابة تصمم من أجل تخفيض خطر حدوث الغش إلى أدنى حد، لكن مع ذلك فليس هناك نظام رقابة يمنع تلك التصرفات بشكل مطلق، والأهم من هذا وذاك أن الوصول بخطر حدوث الغش إلى أدنى مستوى يعني ضمنيا تعظيم كفاءة الإجراءات الرقابية وهذا يتضمن توفير العناصر البشرية والتقنية كافة، ما يعني ارتفاع التكلفة، وهنا يمكن الشيطان تماما، فكلما أردنا الوصول إلى منطقة التأكيد المعقول كان علينا استثمار مزيد من الأموال أو التضحية بنصيب من الأرباح لمصلحة الأجور والرواتب والأنظمة التقنية المكلفة، وكلما قررنا فعل ذلك جاءتنا فكرة تخفيض التكلفة وترشيد الإنفاق، وبدوافع نفسية فقط نقرر أن المخاطر محتملة بين الإنفاق فعليا، فكيف نضحي بالأموال والأصول من أجل احتمالات فقط؟ لقد أثبتت الأحداث التي مرت في أكبر قضايا الفساد أننا نبالغ في التفاؤل أكثر مما يجب، وليس ذلك تفاؤلا صرفا كطبيعة لنا بل هو هروب نفسي من الإنفاق على الرقابة، لكن الحقيقة أكبر من مجرد تنظير بمثل هذه البساطة، فالتضحية بموارد حالية مهمة ملموسة لمجرد احتمالات تعد قرارا صعبا على كل حال، فكيف نتخذ مثل هذه القرارات؟
الإجابة عن هذا السؤال بسيطة لكنها حاسمة وتحتاج إلى جهود كبيرة عمليا، فالمعول عليه في الحكم على حجم الاستثمارات في الرقابة عموما والداخلية بشكل خاص هي القيم، وقد تبدو لك هذه المسألة محسومة، لكنها ليست كذلك. الجميع لديهم قيم وهذه القيم تحدد تصوراتهم ورؤيتهم للواقع وتمييزهم للحق والخير والشر، وليس لهذا قاعدة ثابتة بين البشر لكل منا منظومة من القيم، قد تختلف أو تتفق مع غيرنا، والمجتمعات بأسرها لديها منظومة قيم تختلف عن مجتمعات أخرى، وهنا تكمن المشكلة الأساس، فالاختلافات في منظومة القيم تجعل لكل منا رؤية خاصة للحياة والفرص، وبهذا فإن ما تراه واجبا قد يراه غيرك مجرد عبء أخلاقي إضافي، وما تراه شرا يراه البعض فرصة، فإذا تركنا الاختيار في الالتزام بقواعد الرقابة أو اختيارها أو الاستثمار فيها لمنظومة القيم التي يملكها كل شخص أو كل مؤسسة فإننا سنكون حتما أمام بون شاسع جدا.
إن المشكلة الأشد أن تكون مفاهيم الفساد مطاطة تماما بحيث يصبح كثير من التصرفات التي تعد فسادا في ثقافة مؤسسات أو مجتمعات ما لا يعد كذلك عند غيرهم. ووفقا لهذا كله فإن الدافع الأساس الذي يحدد حجم الاستثمار في الرقابة هو اعتبارات القيم عند المجتمعات. المجتمعات التي لديها منظومة قيم مجتمعية تحدد الفساد بدقة وتحاربه بشراسة وترفضه تماما لديها رغبة أكبر في الاستثمار في إجراءات الرقابة، وتطويرها، وكشف أساليب الغش والتحايل، لأنها لا تسمح لمثل هذه الآفة بالنمو والعيش في وسطها، وهي تستثمر في الثقة بشكل كبير، بينما المجتمعات التي تتناقض عندها محددات الفساد وليست لديها تعريفات دقيقة له تستثمر بصورة أقل في أنظمة الرقابة.
هكذا هي الحال، فالمجتمعات التي تطبق معايير القيم تجعل المديرين أكثر رغبة في تطبيق أنظمة قوية للرقابة، لأنه لو تم اكتشاف الغش أو التلاعب فإن سيواجه حالة مجتمعية عكسية، وهذا مشهود له في دول وشعوب، بينما إذا كان المجتمع أقل اهتماما بالقيم فإن المديرين قد لا يرغبون في "إضاعة" مزيد من الأموال في الرقابة ويكفي ضبط حركة الأصول. ويمكن تمييز المجتمعات التي تراعي القيم عن غيرها من خلال تركيز الاستراتيجيات على مسألة تعريف القيم، فالمجتمعات التي تهتم فعلا لا ترضى إلا بتحديد القيم التي تصل إلى المنتجات ويشعر بها المستهلك وبهذا يحدد قيمتها وفقا لذلك، بينما المجتمعات التي تتراجع عن هذه الأهمية، ولا تستطيع أن تحدد أثرها بشكل عام، ولو كانت تمارس فعليا لكانت حاضرة بقوة في الرقابة.
إنشرها