Author

فجوة العمالة الماهرة .. عرقلة للنمو

|

يبدو أن المشهد الاقتصادي العالمي مرتبك كثيرا مع تباشير الخروج من جائحة كورونا وانتشار توزيع اللقاح، ورغم أن هذا الارتباك كان متوقعا وحذرت منه المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، لكن الأمر يظهر اليوم أشد وطأة مما كان متوقعا، بل أكثر تعقيدا، فالتعثر في سلاسل الإمداد العالمية واضح للغاية وأثر بشكل كبير في حركة نقل البضائع وانعكست آثاره على الأسعار ونسب التضخم العالمية، لكن الصوت القادم من جهات أخرى من العالم يحذر من أزمة جديدة في الأفق تتعلق بحركة العمالة الماهرة والمتخصصة، التي ستكون من أهم التحديات الاقتصادية خلال الأعوام العشرة المقبلة. ويتوقع أن يصل العجز في العمالة الماهرة إلى نسبة كبيرة في عام 2030، ما سيشكل أزمة حقيقية في سوق العمل. ولا يمكن رؤية المخاوف على الاقتصاد والقوى العاملة وبيئة التجارة، بمعزل عن غيرها من الأمور. والخطر الذي تشكله على اقتصادات العمل.
وفي هذا الصدد نشرت "الاقتصادية" تقريرا أخيرا، حذرت فيه غرفة التجارة والصناعة الألمانية من استمرار أزمة نقص الكوادر الفنية الماهرة بالنسبة إلى الشركات، كما أن الشركات الألمانية ستواجه نقصا متزايدا في هذا النوع من العمالة المتخصصة والمطلوبة إلى المستوى الذي سيؤدي إلى عرقلة النمو. لكن ليست السوق الألمانية فحسب التي تعاني هذه المشكلة الصعبة التي تتخوف جهات ألمانية من هجرة شركات كبيرة من البلاد بسببها.
وشهد الاقتصاد البريطاني قبل فترة أزمة حادة في هذا الجانب، بعد اتخاذ قرار "بريكست" وتشديد القيود على شروط الإقامة لبعض العمالة الفنية النادرة القادمة من أوروبا الشرقية، وهنا يمكن القول إن نقص العمالة المتخصصة أصبح أمرا ملحا، حيث تواجه الشركات مشكلات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وإذا كان الاقتصاد الألماني وهو أقوى اقتصاد في القارة العجوز يعاني نقص العمالة الماهرة الفنية والمؤهلة في قطاعات: البناء، والصحة، وصناعة الآلات، والتقنية، ويعاني الاقتصاد البريطاني نقصا حادا في سائقي الشاحنات والعاملين في قطاع النقل بشكل عام، خاصة نقل المحروقات، وجميع هذه الفئات تندرج ضمن العمالة المتخصصة والنادرة التي يصعب وجودها بسهولة في سوق العمل لأنها متدربة على مناخ العمل في هذه القطاعات المذكورة، فإن هذا يجعل من نقص العمالة المتخصصة في النقل اللوجستي ظاهرة عالمية، وذات آثار اقتصادية عميقة وبعيدة المدى.
وتؤكد التقارير الدولية أن نقص العمالة الماهرة سيؤدي إلى عرقلة النمو من جوانب عدة، فالنقص يهدد الإنتاج من جانب والطلب من جانب آخر، ويؤزم الحالة الاجتماعية. لكن الأثر الأشد إيلاما على الاقتصاد العالمي يأتي من ارتفاع نسب التضخم في وقت يشهد العالم فيه تصاعدا لمعدلات التضخم في دول عديدة من العالم، فنقص أصحاب المهارات المتخصصة يؤدي إلى تراجع الإنتاج عموما ويسهم في نقص الإمدادات خاصة المواد الخام والمواد نصف المصنعة، كما أن النقص في سائقي الشاحنات أو العاملين في القطاع اللوجستي يمكن أن يؤدي إلى تعثر عمليات الإنتاج الصناعي نظرا لعدم توريد المنتجات الأولية الضرورية في الوقت المناسب. وآليا ومباشرة يؤدي إلى تحرك النشاط الاقتصادي بشكل عام، وهنا نرى أهمية العمالة الماهرة والمدربة والمتخصصة في دور الاقتصاد اليومية وفي حالة وجود نقص فيها يتسبب في تعطل حركة التجارة بشكل عام.
وبحسب التقارير تتوقع 43 في المائة من الشركات في ألمانيا على سبيل المثال خسارة طلبيات أو أن تضطر إلى تخفيض عروضها لنقص العمالة المتخصصة مقابل 39 في المائة في 2019، ولهذا فإن البنك المركزي الألماني لا يستبعد حدوث قفزة في معدل التضخم في تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري إلى نحو 6 في المائة، في مقابل 4.6 في المائة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
ومن الواضح أن التعثر في سلاسل الإمداد سيكون أكبر مما هو متوقع، بل أصبح مشكلة معقدة بشكل غير مسبوق، فهي من جانبها الواضح تظهر نقصا وتراجعا في الخدمات اللوجستية، لكنها تتحول تدريجيا إلى نقص في تصنيع المواد وفي عمليات التحويل الصناعية، وإذا كانت هذه القضية تظهر في بعض دول العالم نقصا في الحاويات وتراجع أداء الموانئ والشحن فإنها في دول أخرى مثل دول الاتحاد الأوروبي تأتي مشكلة نقص العمالة الماهرة والمدربة، ويعود النقص بهذه الحدة إلى عدم قدرة العمالة المتخصصة على العودة إلى مناطق عملها بعد عودة الكثيرين إلى دولهم أثناء الجائحة، ومع تفاوت الاشتراطات بين الدول بشأن اللقاحات فإن تدفق العمال بين دول الاتحاد الأوروبي ومن خارجه يواجه تراجعا حادا.
وطبقا لتقارير صادرة من منظمة العمل الدولية، شهد العالم تراجعا في فرص الحصول على وظائف في خانة العمالة الفنية الماهرة ومثال ذلك في البلدان النامية والمتقدمة، وفي أوروبا على نحو خاص.
صحيح أن مشكلة نقص العمالة الماهرة كانت تتفاقم على مدار الأعوام الماضية، إلا أن أزمة كورونا زادت من حدة الوضع، ولا سيما بعدما هجر الكثيرين من أصحاب التخصصات والمهارات العملية أماكن عملهم للظروف الصحية والإجراءات والاحترازات المتشددة التي صاحبت إغلاق كثير من القطاعات التجارية والشركات، ولذلك فإن نقص هذا النوع من العمالة أصبح رهين آثار الجائحة، وبحسب التقارير فإن 51 في المائة من الشركات الألمانية لا يمكنها شغل بعض الوظائف الشاغرة لديها، لعدم وجود عمالة ماهرة مناسبة نظرا لهذه الأسباب جميعا، وهنا يمكن القول إن المنطلق الأساس لحل أزمة العمالة يأتي من عدالة توزيع اللقاحات وتحقيق طلبات دول كثيرة بحلول العام المقبل بفك الاحتكارات الخاصة بها.

إنشرها