تقارير و تحليلات

«الموانئ الحرة» .. استراتيجية بريطانية لدفع النمو الاقتصادي بعد الخروج الأوروبي

«الموانئ الحرة» .. استراتيجية بريطانية لدفع النمو الاقتصادي بعد الخروج الأوروبي

يعد ميناء "تيسايد فريبورت" البريطاني الذي افتتح يوم الجمعة الماضي، أول وأكبر "منفذ بحري حر" من بين ثمانية موانئ حرة تخطط الحكومة البريطانية لإنشائها.
الميناء وبمجرد اكتمال عملية تطويره سيسهم في إضافة ثلاثة مليارات جنيه استرليني سنويا الى الاقتصاد البريطاني، إذ سيسمح باستيراد البضائع دون تعرفات جمركية أو أي ضرائب أخرى عند إعادة الشحن مرة أخرى. ميناء تيسايد الحر سيضيف أيضا 18 ألف فرصة عمل للاقتصاد البريطاني.
عملية الافتتاح ترافقت مع نقاش واسع حول سؤال واحد لا غير، هل يمتلك هذا الميناء الحر والخالي من الضرائب أو التعرفات الجمركية، والموانئ السبعة القادمة في الطريق، القدرة على دفع الاقتصاد البريطاني إلى الأمام، ومساعدته في التغلب على عثراته؟ باختصار، إلى أي مدى تعد فكرة المناطق الاقتصادية الحرة إيجابية في تعزيز النشاط الاقتصادي.
وزير المالية البريطاني ريشي سوناك أحد أبرز المدافعين عن الفكرة، أعد عام 2016 تقريرا تفصيليا بشأن الفوائد التي ستعود على المملكة المتحدة من الموانئ الحرة،. سوناك أعد التقرير قبل أن يتولى منصبه بأعوام.
والآن أتيحت له الفرصة لتطبيق أفكاره على أرض الواقع، معززا موقفه بأن الموانئ الحرة باتت جزءا من الاستراتيجية الاقتصادية البريطانية بعد وباء كورونا والخروج من الاتحاد الأوروبي.
في الواقع، فإن الفكرة ليست جديدة تماما، فقد برزت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفي إيرلندا طبقت قبل 60 عاما، ويتمثل الأمر في مناطق مخصصة ومحددة تحيط بالميناء البحري، أو المطار، تتمتع بنظام جمركي مختلف عن نظام الدولة التي تقع فيها، وفي تلك المنطقة تمنح إعفاءات جمركية وضريبية على السلع المستوردة.
الفكرة تنال حظوتها دوليا من المنطق الربحي البسيط للشركات. الإعفاء الضريبي يوجد جاذبية أعلى للشركات للاستثمار في تلك المنطقة، وقد تكون الفاتورة الضريبية المالية أقل، لكن معدلات التوظيف والاستثمار أعلى، والنشاط التجاري والإنتاج الصناعي أسرع نموا.
لكن الأمر لا يخلو أيضا من ثغرات وجوانب انتقاد، فالمناطق الحرة يمكن أن تتحول إلى مرتع ملائم لعمليات التهرب الضريبي، وملاذ آمن لغسل الأموال، كما يمكن أن تعزز عبر استقطابها رؤوس الأموال الأجنبية والوطنية من الخلل في تحقيق النمو المتوازن بين المناطق المختلفة داخل الوطن الواحد.
ولكن كيف يقيم الاقتصاديون فكرة وأداء المناطق الحرة على مستوى العالم.
الدكتورة جاسيكا ماسن أستاذة التجارة الدولية في جامعة كامبريدج تعتقد أن إنشاء مناطق حرة أو موانئ حرة، بمنزلة شهادة اعتراف من قبل الدولة التي تقوم بتأسيس تلك المناطق بأنها مؤمنة وحريصة على تشجيع التجارة الحرة، وهذا في حد ذاته يبعث برسالة إلى المجتمع الدولي بطبيعة القرارات الاقتصادية التي تتخذها تلك الدولة ورؤيتها لكيفية التعامل مع رؤوس الأموال الأجنبية.
وتقول لـ"الاقتصادية"، إن "الميزة الرئيسة للموانئ الحرة أنها تشجع الواردات عن طريق خفض الرسوم الجمركية، ويمكن لشركات التصنيع الموجودة في نطاق تلك الموانئ أو المناطق الحرة أن تستفيد من المدخلات المستوردة الأرخص تكلفة مقارنة بتلك الموجودة خارجها".
وتضيف "أما بالنسبة إلى زيادة معدلات العمالة فإنها لا شك توجد مزيدا من فرص العمل، لكن معدل التوظيف في حد ذاته سيعتمد على مجموعة مختلفة من العوامل مرتبطة في جزء منها بطبيعة النشاط الاقتصادي السائد، وكذلك مستويات التكنولوجيا المستخدمة، فعلى سبيل المثال فإن التقديرات البريطانية بشأن الموانئ الحرة في المملكة المتحدة يمكن أن توفر150 ألف فرصة عمل، لكن بعض الاقتصاديين يعتقدون أن ذلك يعني أن كل وظيفة في منطقة التجارة الحرة هي وظيفة جديدة لن تكون موجودة في غياب منطقة التجارة الحرة، وربما يتضمن ذلك بعض المبالغة في التقدير".
لكن نجاح المنطقة الحرة يعتمد في جزء كبير منه على خصوصية جدول التعرفة الجمركية، حيث تكون التعرفة الجمركية على بعض السلع الجاهزة أقل من التعرفة الجمركية على أجزائها، وهي ظاهرة يطلق عليه الخبراء اسم "انعكاس التعرفة الجمركية"، وأهمية ذلك يكمن في أنه يجعل من المفيد أحيانا استيراد قطع غيار إلى منطقة التجارة الحرة، وإكمال المراحل النهائية من المعالجة التصنيعية في المنطقة الحرة ذاتها، ثم إدخال السلعة النهائية إلى الأسواق المحلية بسعر التعرفة المنخفضة.
وعلى الرغم من أنه ليس بالضرورة أن يطبق هذا النهج الاقتصادي في جميع المناطق الحرة، إلا أنه يطبق في بعض البلدان مثل الولايات المتحدة على سبيل المثال، ما يجعل المناطق أو الموانئ الحرة بؤرا للتصنيع أكثر منها مراكز للاستيراد والتصدير فقط.
ولكن في الحقيقة، فإن كثيرا من التيارات الاقتصادية التي تتبنى مواقف غير ودية مع فكرة المناطق الحرة ترجع ذلك إلى مخاوف الاستقطاب التنموي، بما يضر في بعض الأحيان بمناطق إنتاجية في الأسواق المحلية ملزمة بدفع ضرائب أعلى من نظيرتها في المناطق الحرة، وغالبا ما ينجم عن ذلك تحويل الأعمال من بعض المناطق إلى الموانئ أو المناطق الحرة، بدلا من إنشاء نشاط اقتصادي جديد بشكل حقيقي.
الباحثة الاقتصادية ليزا هازل ترى أن هذا العامل أسهم في تعرض فكرة الموانئ الحرة لعديد من الانتقادات خاصة في الاقتصادات الناشئة على وجه التحديد، ما يتطلب من وجهة نظرها ضرورة وضع برنامج للتنمية الوطنية الموجه إلى التصدير والمستندة إلى المكان قبل اتخاذ قرار إنشاء منطقة حرة.
وتقول لـ"الاقتصادية": إن "استنباط تدابير تتصدى للتحويل المحتمل للنشاط الاقتصادي من مكان إلى آخر، على أن يترافق ذلك مع التزامات قوية بفكرة تكافؤ الفرص، يمكن أن يحد بشكل كبير للغاية من الأضرار الناجمة عن منح إعفاءات ضريبية للمناطق الحرة في الوقت الذي تفرض فيه ضرائب على مناطق إنتاجية أخرى داخل الحدود الوطنية ذاتها".
لكن تلك المعالجات لم تهدئ من حدة الدعوات التي تنادي بالتخلص التام من فكرة المناطق الحرة، وهذا تحديدا ما حدث من قبل الاتحاد الأوروبي حيث دعا البرلمان الأوروبي عام 2019 إلى إلغاء المناطق الحرة في جميع دول الاتحاد نتيجة التقارير المتعاقبة التي كشفت عن تنامي التهرب الضريبي وغسل الأموال في المناطق الحرة.
الا أن بعض الخبراء يرون أن تلك الدعوات مفرطة في تطرفها العدائي للمناطق الحرة، وبينما يمكن مكافحة التهرب الضريبي وغسل الأموال عبر مجموعة من القوانين المتشددة، فإن الفوائد التي يمكن أن تخسرها الاقتصادات الوطنية إذا تبنت مثل تلك الدعوات قد يصعب تعويضها.
تكشف مساعي الحكومة البريطانية لإنشاء ثمانية موانئ حرة، إلى أن هناك اتجاها عالميا لتعزيز تلك النماذج الاقتصادية التي يقدر عددها حاليا ووفقا لمنتدى الاستثمار العالمي بـ5400 منطقة اقتصادية حرة في العالم عبر 147 اقتصادا، تم تأسيس ألف منها في الأعوام الخمسة الماضية، مع توقعات بأن يتم إنشاء أكثر من 500 أخرى خلال الأعوام القليلة المقبلة.
لكن المراهنة الحقيقية على صعود نجم المناطق التجارية الحرة والموانئ الحرة، لا يقف من وجهة نظر الخبير الاستثماري روب دين على التوسع البريطاني في هذا المجال، وإنما يبرز في سعي دولي يعتبر أن المناطق الحرة محركات للتنوع الاقتصادي الذي يحافظ على استمرار العملية الاستثمارية خاصة في لحظات تباطؤ النمو الاقتصادي.
لكن ما يعده البعض نموا مفرطا في المناطق والموانئ الحرة في العالم يدفع إلى ضرورة أن يترافق هذا النمو مع التفكير في المزايا التنافسية التي يمكن أن تقدمها الموانئ والمناطق الحرة الجديدة في مواجهة منافسيها، فإذا كانت ديناميكيات السوق العالمية التي تتغير بشكل ملحوظ خاصة في مرحلة ما بعد كورونا تشجع على تأسيس مزيد من الموانئ والمناطق الحرة، فإن اللاعبين الجدد ملزمون بتقديم عوامل جذب جديدة تميزهم عما هو متاح في الاقتصاد الدولي من مناطق وموانئ حرة بالفعل.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" روب دين أن بيانات البنك الدولي تشير إلى أن الشركات الصغيرة والمتوسطة تمثل حاليا 90 في المائة من الأعمال وأكثر من 50 في المائة من إجمالي العمالة في العالم، حيث ستكون هناك حاجة إلى 900 مليون وظيفة بحلول 2030 لاستيعاب الأعداد المتزايدة من القوة العاملة العالمية، ما يجعل تنمية الشركات الصغيرة والمتوسطة أولوية لعديد من الحكومات حول العالم.
ويضيف "الجديد الذي يمكن أن تقدمه المناطق الحرة والموانئ الحرة حديثة الإنشاء هو مزيد من الاهتمام بالنشاط الاقتصادي للشركات الصغيرة والمتوسطة، فعبر الاهتمام بأنشطة تلك الشركات يمكن ضمان زيادة معدلات التشغيل وفي الوقت ذاته إيجاد جاذبية حقيقية للاستثمار في المناطق والموانئ الحرة".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات