الفكر الاقتصادي المرتبط بالطبيعة «1 من 3»
الفكر الاقتصادي الرشيد يدعونا إلى تعامل أفضل مع الطبيعة، فتمثل الـ 70 عاما الماضية قصة نجاح على مختلف الأصعدة. فقد أصبحنا نتمتع بصحة أفضل ونعيش عمرا أطول ونتقاضى دخلا أعلى مقارنة بأسلافنا. وتراجعت نسبة السكان الذين يعانون الفقر المدقع تراجعا كبيرا في مختلف أنحاء العالم. وفي الوقت الذي نستفيد فيه من التقدم في التكنولوجيا والعلوم الحديثة وإنتاج الغذاء، قد يدفعنا ذلك للاعتقاد بأن البشرية تشهد أفضل عصورها على الإطلاق. فقد ارتفع إجمالي الناتج المحلي العالمي ارتفاعا كبيرا منذ الخمسينيات، وتضاعف الناتج الاقتصادي العالمي 15 مرة. غير أن هذه الإنجازات تخفي في طياتها حقيقة بسيطة تترتب عليها انعكاسات عميقة ليس على مفاهيمنا وممارساتنا الاقتصادية فحسب بل أيضا على الطريقة التي نحيا بها هذه الحياة. فجميع أشكال الرخاء التي كنا ولا نزال ننعم بها تعتمد على الطبيعة المحيطة بنا التي نشكل جزءا منها بداية من الغذاء الذي نتناوله والهواء الذي نستنشقه وتحلل نفاياتنا حتى وسائل الترفيه وإشباع الاحتياجات الروحية.
غير أن الغلاف الحيوي تضاءل في هذه الفترة. وأصبحت معدلات الانقراض الحالية أسرع بمقدار 100 إلى 1000 مرة مقارنة بالمعدل الطبيعي -عملية الانقراض الطبيعية للكائنات- على مدى عدة ملايين مضت من الأعوام.
ويستمر تسارع المعدلات.
ويعرض مؤشر الكوكب الحي الذي يقيس أعداد الثدييات والطيور والأسماك والزواحف والبرمائيات. فبين عامي 1970 و2016، تراجعت أعداد الكائنات الحية عالميا بنسبة 68 في المائة في المتوسط. ويشير تقرير صدر أخيرا عن المنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية إلى تراجع جودة 14 خدمة من إجمالي 18 خدمة تقدمها النظم الإيكولوجية. وقد استمر السحب من أصول الطبيعة من خلال استخراج الموارد الطبيعية واستنزاف العناصر الغذائية في التربة وخفض المخزون السمكي وغير ذلك، واستخدام الطبيعة كمصرف لنفاياتنا. ونتيجة لذلك شهد الغلاف الحيوي تدهورا حادا، وأصبح بعض النظم الإيكولوجية، كالشعاب المرجانية، على وشك الانهيار. وقد تدفعنا بعض الأحداث إلى التفكير لوهلة. فجائحة كوفيد - 19 أثارت عديدا من التساؤلات عن مدى استدامة علاقتنا بالطبيعة، نظرا لأن تجارة الأحياء البرية غير المشروعة والتغيرات في شكل استخدام الأراضي وتدمير الموائل الطبيعية من أهم العوامل وراء الأمراض المعدية المستجدة. نشرت في بداية العام الجاري دراسة بعنوان The Economics of Biodiversity: The Dasgupta Review بناء على طلب وزارة الخزانة في المملكة المتحدة حاولت فيها إلقاء الضوء على إغفال العلوم الاقتصادية لدور الطبيعة. واستنادا إلى المعلومات المتاحة حول الغلاف الحيوي في مختلف علوم الأرض والبيئة، تضع هذه الدراسة إطارا لدمج الطبيعة في الفكر الاقتصادي وتعرض إرشادات لإحداث التغيير المنشود من خلال ثلاثة تحولات متصلة واسعة النطاق. يتمثل التحول الأول في ضمان عدم تجاوز الطلب على الطبيعة مستويات العرض. فطوال عدة عقود، ظل الطلب على الطبيعة، أو ما يطلق عليه البعض مصطلح البصمة الإيكولوجية يفوق بكثير قدرتها على تلبية هذا الطلب على أساس مستدام، ما نتج عنه تدهور الغلاف الحيوي معدلات مثيرة للقلق. وتهدد الزيادة المزمنة في مستويات الطلب رخاء الأجيال الحالية والمستقبلية، وتثير مخاطر حادة بالنسبة لاقتصاداتنا ورفاهيتنا. وللابتكارات التكنولوجية كتلك الهادفة إلى إنتاج الغذاء على أساس مستدام دور مهم في ضمان عدم تجاوز الطلب على الطبيعة مستويات العرض.
لكن إذا كنا بصدد تجنب تجاوز الحد الأقصى لقدرة الطبيعة على العطاء مع تلبية الاحتياجات البشرية في الوقت نفسه فإن ذلك يتطلب إعادة هيكلة أنماط الاستهلاك والإنتاج بصورة جذرية أيضا. ومن شأن السياسات التي تسهم في تغيير الأسعار ومعايير السلوك من خلال توحيد الأهداف البيئية عبر جميع سلاسل العرض وإنفاذ معايير إعادة الاستخدام والتدوير والمشاركةتسريع وتيرة الجهود الهادفة إلى فك الارتباط بين أنماطه.