السياسية

إفريقيا .. المعادن تعيد القارة لزمن الحرب الباردة

إفريقيا .. المعادن تعيد القارة لزمن الحرب الباردة

معدن الذهب في جبل عامر سبب رئيس في حرب دارفور في 2013.

إفريقيا .. المعادن تعيد القارة لزمن الحرب الباردة

بدأت تتبلور معالم قطبية جديدة تغزو إفريقيا.

شكل صراع القوى الكبرى على النفوذ في القارة الإفريقية، سببا مباشرا في اندلاع العديد من الحروب، بما في ذلك الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918). فعلى مدار قرنين ونصف قرن، كانت القارة السمراء محط تنافس القوى الاستعمارية، من أجل الاستحواذ على الموارد البشرية (تجارة الرقيق) والموارد الطبيعية (المواد الأولية)، لدرجة أن كتابات تاريخية تتحدث عن حقبة "التكالب على إفريقيا"، بداية من أواخر القرن الـ19، في أعقاب الصراع الثلاثي، الألماني الفرنسي البريطاني، على ناميبيا.
بداية الألفية الثالثة، يتكرر السيناريو ذاته مع تجدد الاهتمام بالقارة الإفريقية، ولا سيما أن التقارير تجمع على اعتبارها قارة المستقبل، فالعديد من مواردها لم تنضب بعد، ما فتح شهية التنافس بين اللاعبين الكبار عليها. وهكذا اختلطت الأوراق من جديد، بعد تضارب مصالح القوى التقليدية (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، أمريكا...)، مع قوى جديدة، تبحث عن نصيبها من الكعكة الإفريقية (الصين، روسيا، الهند، اليابان، تركيا...).
أشعلت هذه العودة فتيل الصراع بالعديد من البلدان، بعدما جنحت معظم دول القارة إلى السلمية في تسعينيات القرن الماضي، وساد الاعتقاد بأن رياح الديمقراطية هبت نسائمها على الأفارقة. ما إن أدركت الدول الكبرى حجم ونوعية الكنوز المكنونة في إفريقيا، حتى تصاعدت وتيرة التوترات هنا وهناك، بشكل غير مسبوق، جعل حقبة التداول السلمي على السلطة، أشبه ما يكون بسراب أو حلم يقظة لا غير.
تعاقبت الأبحاث بشأن الاحتياطيات المعدنية داخل إفريقيا، في الآونة الأخيرة، فتبنى البنك الدولي بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي، مبادرة تهدف إلى رسم خريطة حديثة للموارد المعدنية الإفريقية، أطلق عليها "خريطة المليار دولار"، وهي الميزانية المخصصة للمسح الجيولوجي المعني بالاكتشافات، مستعينا بالتكنولوجيا المتقدمة. وكانت تقارير أكاديمية، تحدث عن تتوافر القارة على احتياطي ضخم في 17 من أصل 50 معدنا في العالم. أخيرا، تبين أن هذه المعادن ليست سوى المعادن الاستراتيجية التي يحتدم التنافس الدولي عليها، باعتبارها ركيزة أساسية في الصناعات التكنولوجيا المتقدمة، أهمها: الكولتان والكوبالت والليثيوم والبوكسيت.
تقدم أحدث دراسة معمقة عن احتياطيات المعادن، في بعض الدول ال إفريقية، أرقاما مثيرة جدا، فاحتياطي معدن البوكسيت يبلغ 30 في المائة، ويصل معدن البلاتين إلى 85 في المائة، ونحو 80 في المائة من معدن الكروم، و60 في المائة من الكوبالت، و75 في المائة من الألماس، وغيرها من المعادن التي يطلق عليها "ذهب القرن الـ21". لكونها أساس إنتاج عقاقير علاج السرطان، وعناصر الهواتف الذكية، وتقنيات الطاقة المتجددة. ناهيك عن استعمالها كذلك في صناعة الأسلحة الدقيقة، وعدسات التليسكوب، وفي صناعات الليزر والصواريخ.
حين نعلم أن كبار عمالقة التكنولوجيا في العالم، يلبون ما بين 60 إلى 70 في المائة من احتياجاتهم من هذه المعادن النادرة، والضرورية للابتكارات الحديثة، من القارة الإفريقية، يمكن تقديم تفسير مقنع بخصوص عودة "التكالب على إفريقيا". فالصراع المحموم من أجل أسبقية الحصول عليها، يفتح باب الصراع والتنافس المفترس، بالطرق المشروعة وغير المشروعة، بين الشركات والدول الكبرى، ما يفضي في نهاية المطاف إلى اندلاع التوترات، وفتن الاحتراب الداخلي، في البلدان المحتضنة لهذه المعادن الحيوية.
هذا ما تؤكده تقارير منظمة الأمم المتحدة، فأزيد من 40 في المائة من الصراعات الداخلية المسلحة، على مدى 60 عاما الماضية بالقارة، ارتبطت بشكل وثيق بالتنافس على امتلاك الموارد الطبيعية. ومولت عوائد الموارد الطبيعية جزئيا 75 في المائة من الحروب الأهلية في إفريقيا. وأشعل الاستغلال غير القانوني لهذه الموارد العنف في عدد من المناطق.
كان معدن الذهب في جبل عامر، على سبيل المثال، سببا رئيسا في حرب دارفور في 2013، حيث أدى إلى مقتل نحو ألف شخص، وتشريد نحو 150 ألفا آخرين. ولا تزال الحرب الأهلية ملتهبة في منطقة "كيفو"، المعروفة باسم "القرية العالمية"، شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، نتيجة صراع الميليشيات وأعضاء الجيش الكونغولي على الأحجار الكريمة والذهب والكوبالت والكولتان. وتنتشر بالمنطقة حاليا ما يفوق 100 جماعة مسلحة في شرق الكونغو، يعتمد عدد منها على موارد، تقدر بملايين الدولارات، يتم تحصيلها من التعدين.
لقد أعاد التنافس على المعادن القارة السمراء إلى زمن وأجواء الحرب الباردة، إذ بدأت تتبلور معالم قطبية جديدة تغزو إفريقيا، فالعديد من النزاعات اندلعت نتيجة دعم القوى الكبرى للقوى السياسية والقبلية في هذا البلد أو ذاك. فمثلا كانت روسيا والصين تدعمان الرئيس روبيرت موغابي في زيمبابوي، في وقت تساند فيه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا الرئيس الحالي إمرسون منانجاجوا. إفريقيا الوسطى بدورها دخلت على خط الأحلاف، حيث ساندت فرنسا قوات الرئيس السابق فرانسوا بوزيزي، بينما تدعم روسيا الرئيس الحالي أركانج تواديرا، الذي يعمل حاليا على إبعاد فرنسا من البلاد. امتد الصراع بين القوتين (فرنسا وروسيا) إلى مالي، حيث كان الرئيس المخلوع أبوبكر كيتا حليفا لفرنسا، عكس السلطة الانتقالية الحالية التي أبدت رغبتها في التعاقد مع مجموعة الروس، ما أثار غضب واستياء فرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي.
هكذا تتحول إفريقيا إلى مسرح جديد للمواجهة بين الكبار، على غرار ما حدث طيلة 250 عاما، لينطبق عليها المثل الإفريقي "عندما تتصارع الأفيال يكون العشب الضحية". لقد حان الوقت ليستوعب الأفارقة أن ثرواتهم المعدنية ملك لهم، منهم وإليهم. كل ما عليهم هو الجلوس إلى طاولة الحوار قصد التوافق بشأن كيفيات تدبيرها، بعيدا عن لعبة الاستقواء بالخارج ضد أخوة الداخل. لأن الطرفين معا خاسران في هذه اللعبة، التي يبقى عائدها الأكبر لمصلحة القوى المتنافس بحصولها على ثروات معدنية نادرة وحيوية بأبخس الأثمان.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية