الزراعة ثم الزراعة .. تقنيات وتسويق

تمثل الزراعة مرتكزا أساسيا لأي اقتصاد، ليس من أجل الأمن الغذائي فحسب، بل هي مدخل رئيس لعديد من الصناعات، فما زالت الأرض تمثل المورد الأول للمواد الخام التي ترتكز عليها حياة البشر، ورفاهيتهم. لكن المشكلات الرئيسة التي تواجه البشر اليوم تكمن في تحقيق التوازن المنشود بين رغبتنا المتزايدة في الاستهلاك، وبين الموارد الزراعية المتاحة، فإذا زاد التعداد السكاني في مساحة جغرافية ما، فإن ذلك يأتي على حساب المساحة المتاحة للزراعة، وعلى حساب الوفرة من الماء الذي يمكن تخصيصه لكل الأطراف.
هذا التوازن دقيق للغاية، فإذا تم تجاهل متطلبات هذا التوازن من حيث استهلاك جميع الموارد المائية لمقابلة احتياجات الإنسان فقط، فإن ذلك يأتي على حساب الإمدادات من الغذاء، والإنتاج الزراعي عموما، وهو ما يجعل أي بلد في مواجهة قضايا الأمن الغذائي. وإذا تم توجيه المصادر المائية نحو التنمية الزراعية بلا حساب، فقد ينتج عن ذلك شح في المياه الصالحة للشرب، ما يهدد مسألة البقاء. وهنا لا بد من خطة استراتيجية لمواجهة الواقع، وتحقيق توازن مرض على المدى البعيد.
الاقتصاد العالمي اليوم يواجه ظاهرة ارتفاع أسعار الغذاء عموما لعوامل متراكمة، وأول تلك الأسباب ضعف سلاسل الإمداد، فالنقل والتخزين يواجهان مشكلات عالمية كبرى، والأسعار تصل إلى مستويات قياسية، وفي المقابل هناك هدر للغذاء على طول السلسلة، ما يعزز المفقود الذي يتم تعويض تكلفته في الأسعار النهائية. كما أن هناك التضخم الذي يعم العالم اليوم، خاصة بعد تزايد الطلب عقب العودة من الإجراءات الاحترازية، التي كانت سائدة إبان ذروة انتشار فيروس كورونا. ومع التكهنات برفع سعر الفائدة، فإن الأسعار مقبلة على مزيد من الارتفاعات.
وعلى الرغم من أن السعودية عملت منذ عام 2009 على مواجهة هذه المشكلة من خلال إنشاء الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني "سالك"، إحدى شركات صندوق الاستثمارات العامة، التي تعمل على تحقيق استراتيجية الأمن الغذائي عبر توفير المنتجات الغذائية، واستقرار أسعارها من خلال نشاطها الاستثماري في الخارج، إلا أن التغلب على ارتفاع الأسعار يظل مشكلة عالقة، خاصة إذا كانت ترتبط بضعف سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار الشحن العالمية، التي تتصاعد أيضا كلما تصاعدت أسعار النفط.
ولذا، فإن جزءا من الحل لم يزل يعتمد على قدرتنا على زيادة الاستثمار الزراعي الداخلي، الذي يواجه تحديات كبيرة تتمثل أساسا في الابتكار الموجه للنواحي الزراعية، إلى جانب أن عديدا من الأساليب والتقنيات الزراعية تقليدية، وهناك مساحة واسعة لمزيد من الابتكار في التقنيات الزراعية التي تتناسب مع الحالة المناخية في السعودية، بحيث يتحقق لنا توازن مستدام بين الحاجة إلى زيادة الإنتاج الزراعي، وتحقيق الأمن الغذائي، وبين الحاجة إلى تقليل استهلاك المياه، وهذا يعتمد أساسا على الحد من الهدر، والمفقود من الغذاء على طول السلسلة، بدءا من الإنتاج، حتى التسويق، والاستهلاك النهائي.
وقد طرحت رؤية المملكة العربية السعودية 2030 برامج في هذا القطاع للمساهمة في تحقيق تنمية اقتصادية، واجتماعية، متوازنة، من خلال رفع الكفاءة، والاستغلال الأمثل، والمستدام، للموارد الطبيعية الزراعية، والمائية المتجددة.
وسيسهم برنامج التنمية الريفية المستدامة 2018 - 2025، في تحقيق الأمن الغذائي في السعودية، من خلال توفير 43 في المائة من الاحتياجات الكلية من الطاقة الغذائية لسكان المناطق المستهدفة، ونحو 19 في المائة من الاحتياجات الإجمالية، إضافة إلى ضمان سهولة الحصول على الغذاء، واستهلاك غذاء آمن وصحي، وتوفير إمدادات غذائية مستقرة، كما سيسهم البرنامج في زيادة نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل، وفقا لمستهدفات الرؤية.
وقد دعم صندوق التنمية الزراعية، التقنية الحديثـة بما يصل إلى 70 في المائة مـن قيمـة القـرض، وكذلك دعم مشـاريع سلسـلة الدواجـن اللاحم، والبيـوت المحميـة المكيفة، والاسـتزراع المائي، لأهميتهـا فـي منظومـة الأمـن الغذائـي. كما أن هناك جهودا كبيرة من قبل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، التي أولت اهتماما بالتقنيات الزراعية، من بينها تقنية الزراعة المائية التي تعتمد على تدوير المياه في غرف مقفلة تعمل بالطاقة الشمسية، وتتميز بغزارة في الإنتاج بالنسبة إلى المساحة المربعة، مع استهلاك كمية قليلة من المياه والطاقة. لكن مع ذلك، تبقى التحديات قائمة في مجالات أخرى، مثل التسويق الزراعي، وهو ما ناقشه مجلس الشورى أخيرا، حيث دعا وزارة البيئة والمياه والزراعة إلى التنسيق مع الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني "سالك"، لتنمية الإنتاج المحلي، والتركيز على إنشاء شراكات تعاونية مع المستثمرين، والمزارعين، ومنتجي الأغذية، لتغطية حصة من السوق محليا، ووضع حلول متكاملة ومبتكرة لمعالجة مشكلة تسويق منتجات المزارع التقليدية، والصغيرة، تضمن وصول المنتجات إلى المستهلكين بسعر عادل.
طرحت "الاقتصادية" قضية الإنتاج الزراعي المحلي وتناولتها في هذه المساحة وغيرها مرات عديدة، وأعاد مجلس الشورى مناقشتها، وهو ما يؤكد ما أشرنا إليه من ضرورة إيجاد حلول تحقق لنا إنتاجا زراعيا محليا وفق أسعار معقولة، مع الاحتفاظ بالجودة التنافسية، وأن هذا يرتبط بقضايا التسويق الزراعي. وعلى الرغم من وجود حراك كبير في هذا الموضوع ومحاولات جادة لتطبيق مفاهيم التسويق الإلكتروني، إلا أن الواقع لا يزال غير قادر على التحرر من الأساليب التقليدية، التي تتسبب في هدر كبير في الكميات، حتى في مستويات الجودة، التي تتأثر بشكل واضح بتلك الأساليب التسويقية التي لم تعد مناسبة ولا منافسة. ولهذا، فإن التقنيات الزراعية يجب أن تشمل حتى على قضايا التسويق الزراعي، وأن يكون هناك تنسيق شامل بين جميع الأطراف، من منتجين، ومسوقين، ومعالجة مشكلات التعبئة، والتغليف، وتقليص تكلفتها، مع الاحتفاظ بمستويات الجودة المطلوبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي