Author

النرجسية والتنمر المؤسسي .. نقاط الالتقاء

|
تحدثت في المقال السابق عن التنمر في مكان العمل وكيف أن التسلط والأذية ممكن أن يحدثا بشكل متعمد ومدروس، وأخطر ما في التنمر المؤسسي أنه لا يكتشف وينكر في مكان العمل بسهولة. من الحالات الأخرى التي "تحرق" البيئة الإيجابية وتكسر الجسور وربما تلتقي مع التنمر في كثير من منعطفاته هي النرجسية أو ما أود حصره تحديدا في الأنانية المهنية. يخرج كثير من مظاهر الأنانية المهنية من مجتهدين يبحثون عن النجاح، وربما استخدموا ما يعدونه منافسة صحية لتدمير زملائهم أو استخدموا طموحاتهم الشخصية للقضاء على مستهدفات الكيان من حيث لا يعلمون.
من المعتاد مشاهدة هذه السمات لدى كبار الموظفين مثل الرؤساء التنفيذيين، إذ إن موضعهم يجعل المسألة تأخذ مزيدا من الأضواء. ما هي الأنانية المهنية؟ تتعدد السمات ولكن أهمها: حب الظهور وتقدير الذات بشكل مبالغ فيه، الاعتقاد باستحقاقهم ما لا يستحقون، الاهتمام بالمظاهر - من بروتوكولات الحركة حتى حجم التوقيع! - ناهيك عن إقصاء الآخرين والتلاعب بمشاعرهم تقديما للمصلحة الشخصية. ولماذا تتجسد في الرؤساء التنفيذيين والمديرين أكثر من غيرهم؟ لأنهم يتمكنون من استخدام السلطة بحرية أكثر لتحقيق مآربهم، فتتجسد ممارسات الأنانية المهنية كلما ارتفع المستوى الوظيفي، ولكنها في الحقيقة تكون موجودة عند صغار الموظفين كذلك. وأسوأ أشكالها ما رافقه الجهل بأساليب العمل إداريا وفنيا، وأخطرها ما استغل معرفة الآخرين لتدمير البقية.
ستجد هذا النوع من السلوكيات في كل منظمة، المعلمون والمدير في المدرسة يصنعون أحيانا أغرب قصص النرجسية. أساتذة الجامعات كذلك، بل ستجد لديهم من القصص ما يشيب له الرأس ويثير السخرية، خصوصا لو نظرنا إلى توزيعهم للأدوار والتكاليف الإدارية. هناك أستاذ جامعي يرى نفسه الإمبراطور الأكبر، لأنه تسلم خطاب تكليف من مدير الجامعة، وآخر منزو بفريقه في مركز بحثي صغير ويظن أنه سقف العالم، لأنه تسلم تمويلا بحثيا يوزع منه على زملائه ويبتزهم لظهور اسمه في أبحاثهم وأوراقهم العلمية. ومثل ذلك ستجد رياضيا سابقا عمله اليومي الإشراف على فريق من الشباب يلعبون بملعب مستأجر ويشكل مصدر إزعاج للاعبين وجيرانه في الملعب وربما لكل من يتعامل معه، وستجدها في الموهوبين والفنانين وغيرهم الكثير. إن أكثر ما يتسم به هؤلاء الأنانيين أنهم لا يتمكنون من التعاطف مع غيرهم أثناء أدائهم لأعمالهم.
لهذه الأسباب تلتقي الأنانية المهنية مع التنمر في أذية الآخرين وتخريب الواقع، وتختلف معها في الهدف، فالمتنمر قد لا يبحث عن المكاسب الشخصية بالضرورة، وإنما لديه عادات سيئة أو ينجرف مع فريق أو عصابة تؤدلج أفكاره وتسممها، بينما النرجسي يشبع رغباته بشكل مباشر، وقد يدمج بين نرجسيته واهتمامه بالنجاح الشخصي ليصنع نقطة تحفيز ذاتية متجددة قوية التأثير تجعله ينسى كل ما هو حوله، وتصبح الأنا عنده هي الأهم. وقد نرى أحيانا كيف أن بعض المنظمات تتغير منهجيتها أو تبدأ رحلة التغيير بسبب قدوم رئيس نرجسي أو متنمر كبير، إذ إن هذه السلوكيات السلبية تنتشر انتشار النار في الهشيم، ومع أنها تستنكر أحيانا إلا أن السلطة جاذبة، فسرعان ما تجد جوقة المؤيدين والمنافقين جاهزة للدعم.
من المشاهد المؤلمة لمثل هذه الظواهر الاستفادة من الطاقة السلبية للأنانية المهنية لاتخاذ قرارات يتخلى فيها الشخص عن العاطفة، مثل عملية تنظيف الشركة من ضعيفي الأداء. ومع أنني لا أعترض على فصل المتقاعسين والتخلص منهم، إلا أن الأنانية عند صانع القرار قد تجعل الأمر يخلو من النزاهة. في الحقيقة تشير الأبحاث إلى أن أعمال النرجسيين تتسم في العادة بنقص في قيم النزاهة والتعاون. وهناك من الأبحاث ما يشير إلى أن نسبة الدخول إلى قاعات المحاكم ترتفع إذا زاد معيار النرجسية عند صانع القرار، إشارة إلى علاقة ارتفاع الأنانية المهنية بالمخاطر القضائية.
من المثير أن الأبحاث تشير كذلك إلى أن هؤلاء النرجسيين، وعلى الرغم من ارتباطهم بضعف النزاهة وبعدهم عن التعاون والعمل المنسق، وتدني أداء وإنتاجية المنظمات التي يعملون بها، إلا أن معدل مكافآتهم وتعويضاتهم مرتفع! وهذا قد يشير إلى سيطرتهم على الموقف حين ينفذون أجندتهم، وإلى إجادتهم الظهور بمظهر الناجح واللامع على الرغم من عملهم التدميري، فالأبحاث تثبت كذلك وقوعهم في عدد كبير من المخالفات بنسب أكثر من غيرهم، مثل صفقات الشراء الفاشلة والتلاعب بالمعلومات المحاسبية. اندفاعهم وحماسهم "السلبي" هو ما قد يضمن لهم العوائد الشخصية الأكبر، ولكنه بكل تأكيد على حساب الوضع الاستراتيجي للمنظمة، بيئة العمل في وجودهم ستتحول إلى بيئة انتهازية البقاء فيها للأسرع والأقوى، وستكثر وتقبل حينها الفلاشات وسجلات الإنجازات الوهمية، وسيقبع الصغار في المؤخرة بشكل أكبر، ففي هذه الأماكن لن تجد مداخل واضحة لبناء المواهب أو إطلاق القيادات أو الفرق المميزة التي تعمل على مستوى واسع، وستجد كثيرا من السلوكيات المشتركة بين الأنانيين والمتنمرين التي ستعيث لعبا وفسادا ببيئة العمل.
إنشرها