Author

الديون .. هزة لكيانات اقتصادية

|

ارتفعت مستويات الديون في العالم خلال العام الماضي، بسبب زيادات غير مسبوقة في مستوى اقتراض الحكومات، من أجل الوقوف في وجه المصاعب الاقتصادية التي جلبتها أزمة تفشي وباء كورونا.
هذه الديون كانت مرتفعة أصلا حتى قبل انتشار الجائحة، وكانت الصيحات تعلو من هذه المؤسسة الدولية أو تلك، الداعية إلى الحد من حجم الديون السيادية عموما، خصوصا الدول التي لا تتمتع باستقرار اقتصادي مستدام، أو بمعدلات تنموية عالية. ورغم أن هذا النوع من الديون، لا يمثل تهديدا مباشرا للدول المتقدمة، أو لتلك القادرة على السداد، واستثمار الديون ذاتها بأعلى المعايير المطلوبة، إلا أنه يشكل مخاطر كبيرة على الدول منخفضة الدخل، حتى إن بعضها تخلف عن السداد مطلع العام الجاري بالفعل.
وللحديث عن السرد التأريخي لقضية الديون، فقد أطلق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مبادرة "هيبيك" في عام 1996، بهدف ضمان ألا يواجه أي بلد فقير عبء مديونية لا يمكنه التعامل معه، ومنذ ذلك الحين، يعمل المجتمع المالي الدولي، بما في ذلك المنظمات متعددة الأطراف والحكومات، لتخفيض أعباء الدين الخارجي للدول الفقيرة الأكثر مديونية إلى مستويات يمكن تحملها. وفي عام 1999، أجريت مراجعة شاملة للمبادرة أتاحت للصندوق تخفيف الديون على نحو أسرع وأعمق وأوسع نطاقا وعززت الروابط بين سياسة تخفيف الديون وسياسة الحد من الفقر والسياسة الاجتماعية.
وفي عام 2005، وللمساعدة على تسريع وتيرة التقدم نحو تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية التي حددتها الأمم المتحدة، تم تكملة مبادرة "هيبيك" بمبادرة أخرى هي المبادرة متعددة الأطراف لتخفيف أعباء الديون. وتتيح المبادرة متعددة الأطراف تخفيفا 100 في المائة لأعباء الديون المؤهلة، تقدمه ثلاث مؤسسات متعددة الأطراف - صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وصندوق التنمية الإفريقي، للدول التي تستكمل عملية مبادرة "هيبيك". وفي عام 2007، قرر بنك التنمية للدول الأمريكية أيضا إتاحة تخفيف إضافي "إلى جانب ما تقدمه مبادرة هيبيك" لأعباء خمسة دول مثقلة بالديون في نصف الكرة الغربي.
كما أطلقت السعودية عند استضافتها "قمة العشرين" السابقة مبادرة تأجيل تحصيل سداد الديون، وإعفاء جزء منها لبعض الدول المتعثرة في السداد لتداعيات جائحة فيروس كورونا، كما أعلنت "مجموعة العشرين" خلال اجتماع افتراضي رأسته إيطاليا أخيرا تمديد تعليق ديون الدول الأكثر فقرا التي تضررت بشدة من جائحة فيروس كورونا، لستة أشهر إضافية حتى نهاية عام 2021.
وعلى هذا الصعيد، أشار البنك الدولي في تقرير جديد له، إلى أن ديون الدول المنخفضة الدخل ارتفعت بالفعل العام الماضي، أو ما أصبح يعرف بـ"عام الجائحة" بنسبة 12 في المائة، والسبب يبقى، أن هذه الدول رفعت مستوى ديونها العامة، للتصدي للآثار التي تركتها كورونا على الساحة، فهذه الدول اتخذت إجراءات وقرارات كغيرها من الدول وأغلقت بها اقتصاداتها إما بشكل عام وإما بشكل جزئي، ما أسفر عن انكماش كان الأعمق منذ 80 عاما على مستوى العالم.
والإجراءات المالية التي اتخذتها أسهمت في الإبقاء على عدد من المؤسسات في السوق، وبالطبع اضطر إلى الإنفاق على نسبة كبيرة من الشركات، عبر تسديد رواتب موظفيها بنسب عالية جدا، فضلا عن تكاليف مواجهة الوباء نفسه من الناحية الصحية، وفي ساحة العلاج، والحجر، وتوفير الأدوية، والمعدات اللازمة للمصابين، وغير ذلك من روابط خطيرة له.
ديون الدول منخفضة الدخل ارتفعت العام الماضي 860 مليار دولار، في حين وصل إجمالي الديون الخارجية للدول المنخفضة والمتوسط الدخل إلى 8.7 تريليون دولار، مرتفعة 5.3 في المائة.
الزيادة في إجمالي هذه الديون فاقت الدخل القومي لعديد من الدول، بما في ذلك الدول المتقدمة، لكن الأمر "مرة أخرى" يشكل مخاطر مستقبلية على الدول الأكثر مديونية ضمن قائمة الدول منخفضة الدخل، بما في ذلك الضغوط التي ستتعرض لها اقتصاداتها لاحقا على صعيد خدمة هذه الديون، ففي بعض الدول بلغت خدمة الدين العام حدا هز الكيانات الاقتصادية لها، ففي العام الماضي، زاد صافي الإقراض إلى الدول المنخفضة الدخل 25 في المائة إلى 71 مليار دولار. ووفق صندوق النقد الدولي فإن هذا الارتفاع هو الأعلى في عشرة أعوام.
بالطبع، ترتفع مخاطر الديون في الدول منخفضة الدخل، مع ارتفاع مستويات الاقتراض وتراجع النمو، وتعثر الأوضاع الاقتصادية عموما. ولأن الأمر كذلك، يرى المختصون في المؤسسات الدولية، بمن فيهم أولئك العاملون في البنك الدولي، أن هناك حاجة إلى تغيير واسع النطاق في نهج شفافية الديون، وذلك لمساعدة الدول على تقنيين وإدارة مخاطر الديون الخارجية، وهذا يعني أن ذلك سيساعد الدول على تحقيق مستويات وشروط استدانة يمكنها تحملها.
وكل هذا يسهم في حل مشكلة الديون عموما، وهي أزمة خطيرة في كل الأزمة، فعجز دولة عن السداد، يدخلها في نفق مظلم للغاية، ويضعها على هامش التنمية، ويضرب مصداقيتها المالية لأعوام، وربما لعقود مقبلة، دون أن ننسى، أن المستويات الإيجابية للديون السيادية تشكل محورا رئيسا للتنمية في الدول المنخفضة الدخل، ومن هنا يكون التنظيم الجيد لها، بمنزلة قوة دافعة أكثر لتحقيق النمو الإيجابي على الأرض في هذه الدولة أو تلك.

إنشرها