Author

التعليم ومسألة تمكين الثروة البشرية

|
لا شك أن التعليم، في سعيه نحو تمكين الثروة البشرية على مدى الزمن، كان وراء ما أسهم به الإنسان من تقدم علمي وتقني وتنظيمي، وما شهدته حياته نتيجة لذلك من تغيرات كبيرة عبر العصور. ويشهد العصر الذي نعيش فيه، تسارعا في بروز مبتكرات متجددة، ضمن بيئة تنافس حاد، غير مسبوق، بين البشر على تقديم المزيد. ويضع ذلك على التعليم، حول العالم، أعباء متزايدة تطالبه بمتابعة ما يجري، وتدفعه إلى التوجه نحو التطور المستمر.
وللتعليم المأمول محوران رئيسان هما: محور التأهيل المعرفي في المجالات المختلفة النظرية والتطبيقية، ومحور تنمية الإمكانات الذهنية وتفعيل التفكير نحو الإبداع والابتكار. وفي إطار هذين المحورين، يتطلع هذا التعليم إلى تمكين الثروة البشرية من تلبية متطلبات الحياة المتجددة التي تشمل عوامل تتغير عبر العصور، ويهتم أيضا بالاستجابة لمتطلبات سوق العمل والحياة المهنية في شتى المجالات، إضافة إلى السعي نحو التميز في الإبداع والابتكار والعطاء المعرفي والمنافسة، والإسهام في الحضارة الإنسانية.
ولا يقتصر الاهتمام بمسألة تمكين الثروة البشرية على مؤسسات التعليم وحدها، بل يشمل أيضا جهات أخرى تدرك الحاجة إلى الاستفادة من هذه الثروة في تفعيل تنمية المجتمعات اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، وتعزيز استدامة هذه التنمية دون انقطاع. ولهذه الجهات، في سعيها إلى ذلك، مجالات وتوجهات مختلفة تصب جميعا في بوتقة تمكين الثروة البشرية. وسنطرح في هذا المقال أمثلة تتضمن ثلاث جهات، لكل منها ميدان خاص بها. تشمل هذه الجهات: "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD"، التي تضم في عضويتها 36 دولة، والمهتمة بشؤون مستقبل التعليم، ومؤسسة "كسب قضايا المستقبل Winning Futures" الأمريكية غير الربحية المعنية بتأهيل الطلاب، وبالطبع الطالبات أيضا، لسوق العمل، و"المجموعة الوطنية الأمريكية لصغار السن الموهوبين NAGC" المعنية بتقديم برامج وخدمات للموهوبين من أجل الارتقاء بإمكاناتهم وتميزهم لما في ذلك من خير مأمول للمجتمع.
إذا بدأنا "بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، نجد أن اهتمامها بالتعليم ينطلق من توجهها نحو تنمية الدول الأعضاء فيها، ونحو تنمية العالم بأسره أيضا، ربما بدرجة أقل، وذلك من أجل إيجاد نشاط عالمي تستطيع الاستفادة من معطياته. وضعت هذه المنظمة ما أسمته "بوصلة التعلم 2030 Learning Compass" من أجل "رفاهية المجتمع Well-Being"، والمحافظة على هذه الرفاهية في "بيئة متغيرات العصر" بين معطيات ومتطلبات. وجاءت هذه البوصلة في إطار مشروع أطلقته المؤسسة في 2015، هو مشروع "مستقبل التعليم والمهارات 2030". وقد تحدثنا عن هذه البوصلة في مقالين سابقين العام الماضي، وسنكتفي هنا بطرح أمرين مهمين بشأنها يستحقان التركيز.
يرتبط الأمر الأول في تحديد البوصلة للعناصر الرئيسة المؤثرة في حياة الإنسان، التي يجب الحرص على الاهتمام بها والعمل على تطويرها. وهذه هي: "المعرفة، والمهارات، والقيم، إضافة إلى المواقف والتوجهات المستقبلية". أما الأمر الثاني فيتعلق بالقضايا الأساسية التي ترى البوصلة ضرورة الاهتمام بها وهي: "تجاوز الأمية من أجل التفاعل مع الحياة، والمحافظة على كل من الصحة البدنية والنفسية من أجل حماية الإنسان، والتأهيل الاجتماعي والعاطفي من أجل حسن التعامل والتعاون، والاهتمام بمجال التقنية الرقمية الذي أنجب العالم السيبراني الذي يقود تعاملاتنا اليوم.
وننتقل إلى مؤسسة "كسب قضايا المستقبل" التي تعمل في ولاية "ميشيجان Michigan الأمريكية" منذ 1994، وتهتم بتقديم برامج لطلاب وطالبات المدارس، في الأعوام الدراسية الأخيرة، وموضوعها شؤون سوق العمل ومتطلباتها، وشعارها في ذلك "تمكين القوى البشرية من القيام بأعمال الغد". وتركز المؤسسة على ثلاثة أنواع من الصفات المطلوبة في الحياة عموما، وفي سوق العمل على وجه الخصوص. وتشمل هذه الصفات: صفات ترتبط "بشخصية الإنسان Personal"، وصفات تتعلق "بمتطلبات العمل Work"، ثم صفات تركز على "سلوك الإنسان Character". وسنطرح، فيما يلي، أمثلة حول كل من هذه الصفات.
تتضمن أمثلة الصفات الشخصية: الاهتمام الصحي المناسب، والمظهر الخارجي اللائق، وحسن التعامل مع الآخرين، والحرص على حياة أسرية مستقرة. وتشمل أمثلة صفات العمل: التركيز على الخبرة العملية، والقدرة على التواصل مع الجهات المختلفة المؤثرة، والتمكن من اكتساب تميز خاص. أما أمثلة الصفات السلوكية فتتضمن: الالتزام بالعمل والإخلاص له، والإيجابية والمرونة فيه، إضافة إلى احترام الآخرين دون تمييز.
ونصل إلى "المجموعة الوطنية الأمريكية لصغار السن الموهوبين" التي تتعاون مع المدارس في تقديم خدمات ترتقي بإمكانات الموهوبين والموهوبات في مختلف الولايات الأمريكية، خلال الفترة المدرسية البالغة، كما هو معروف، 12 عاما، من أجل تعزيز إسهامهم في العطاء المعرفي في المستقبل. وهناك في هذا المجال عشر مواهب رئيسة تأخذها المجموعة في الحسبان هي: "التميز في المحاكمة الفكرية، والتفوق المدرسي، وتوسع الإدراك الثقافي، والقدرة على الإبداع، والتفوق في الفنون البصرية، والفنون الأخرى، والتمتع بإمكانات حركية خاصة، والتميز في القيادة، والقدرة على الإنجاز بأداء مرتفع". وتجدر الإشارة هنا إلى أن "مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع " تقوم بدور رائد في مجال رعاية الموهوبين والموهوبات، والإسهام بتمكين الثروة البشرية المتميزة. وسنعود إلى هذا الموضوع في مقال قادم بمشيئة الله.
إن إعداد الثروة البشرية وتمكينها من العمل والإنتاج والإبداع والابتكار والتميز والقدرة على المنافسة مسألة مستقبلية حيوية يجب الاهتمام بها، ليس فقط من جانب المؤسسات التعليمية، بل من جانب جميع الجهات التي تسعى إلى تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها. ويجب أن يتم ذلك بروح تعاونية تخدم الثروة البشرية المنشودة على أفضل وجه ممكن. وفي العمل على ذلك، هناك أمثلة لمعطيات محلية ودولية يمكن الاستفادة منها. ولعله من المفيد وضع خطة شاملة تأخذ ما سبق في الحسبان، وتركز على الاستجابة لمعطيات المستقبل ومتطلباته. ولا بد في هذا المجال من التنبه إلى التطور المطرد الذي يشهده هذا العصر في مجال العالم السيبراني، والمنجزات المتجددة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي. إن قطار العصر الذي نعيش فيه سريع، وعلينا أن نستجيب.
إنشرها