Author

الشركات الناشئة واقع مضطرب أم صحي؟

|
من يتابع حالة التغير التي تمر بها الشركات الناشئة اليوم، يجد كثيرا من الملاحظات والمظاهر التي تستحق التوقف، منها ما هو إيجابي ومنها ما يتطلب الفهم والتفسير. إجمالا يتجه الزخم الذي عشناه في الأعوام الماضية إلى واقع أكثر نشاطا وتنوعا واهتماما، وهذا في حد ذاته مؤشر إيجابي. ولكن هناك كثير من التفاصيل المتنوعة التي تجعل المشهد أكثر تداخلا وتثير كثيرا من التساؤلات.
وبداية من ماض ليس بعيدا، كان أصحاب الأفكار المتحمسون يبحثون عن تمويل تقليدي ولا يجدونه، وبعض من يجده يخرج بعد أشهر بقرض متعثر واجب السداد. كانت المشاريع مجرد امتداد لما هو سابق، فالنسق العام يظهر بعض التطورات لمشاريع صغيرة مطورة، وربما مشاريع صغيرة جدا تعوزها صفات المشروع الحقيقي، هي أقرب للأعمال والاهتمامات الشخصية. كان النقاش في السابق عن أهمية مفهوم ريادة الأعمال وأفكار التوسع والاستمرارية وتحقيق الربحية، كثير من الأعمال حينها قد لا تصنف أساسا بأنها أنشطة تجارية أو اقتصادية، وتسمع كثيرا من يحاضر عن أهمية تحقيق هذه الأفكار للقيمة وتعريف النموذج الأولي وفكرة "نموذج العمل" التي أخذت كثيرا من الشرح والاستطراد.
اليوم اختلفت الأحاديث كثيرا، والواقع اختلف كذلك. قبل يومين أعلنت هيئة السوق المالية في خطوة استثنائية وفاتحة لباب واسع وكبير عن الموافقة على طرح أسهم شركة جاهز التقنية في السوق الموازية وهي عبارة عن تطبيق حرج من شركة ناشئة، وخلال العامين السابقين سمعنا عن صفقات استثمارية محلية في الشركات الناشئة بأرقام لم نسمع بها من قبل، وهي في نمو مطرد. واليوم نعرف أن الشركات الناشئة بدأت تستقطب تنفيذيين ومهنيين مهرة من القطاع الخاص ومن كبرى الشركات المدرجة في سوق الأسهم. ونعرف أن مؤسسي الشركات الناشئة أصبحوا يجيدون التعامل بلغة التقييم والمؤشرات والتمويل الاستثماري، وأن المستثمرين أصبحوا كثرا لدرجة أن الفرص التي تناسب محافظهم صارت في ندرة غير معهودة. بل إن التمويل التقليدي لم يعد يهم الكثير من أصحاب هذه الشركات الناشئة لأن الحلول التمويلية الاستثمارية وغير الاستثمارية متاحة، بعض الحلول المتقدمة والمبتكرة كتمويل الجماهير موجودة ومرخصة ونظامية.
كل هذه المشاهد إجمالا هي مشاهد مبشرة، ولكن يعرف الكثيرون أن نجاح الشركة الناشئة يتبين بعد عدد من الأعوام وأن المؤشرات الأولية لا تثبت شيئا، وأن نسب الفشل المقبولة هي نسب مرتفعة، وغير المقبولة مرتفعة أكثر! ولا ننسى أن الأداء المالي الفعلي يتطلب وقتا لإثبات استقراره، ولا تعد المبيعات، على سبيل المثال ووجود نسب عالية من تكاليف التوسع، مؤشرا كافيا للحكم على استمرارية النجاح حتى لو استمرت المبيعات بعد مواسم. أيضا، وفرة الصناديق والمحافظ مع الاندفاع الاستثماري في هذه القناة الاستثمارية "عالية المخاطر" قد تؤثر في طريقة عمل الشركات المستثمر فيها، فالتخارج السريع من خلال الجولات الاستثمارية المتكررة قد يبعثر المسؤولية والالتزام نحو روح المشروع وجدواه ما يؤثر في أدائه.
لأول وهلة، يعد التوظيف النهم من الشركات الناشئة أمرا رائعا. من المثير رؤية الشاب ينتقل بمفهومه من البحث عن الاستقرار في وظيفة حكومية إلى تفضيل العمل في القطاع الخاص، وبسرعة شديدة، ومن تلك المرحلة، إلى شجاعة العمل في "ستارت أب"! وهذا يعني مزيدا من الانتقالات والقفزات الوظيفية والرومانسية المهنية في الاستمتاع بوظيفة تستحق الحب والاندماج. ولكن أتساءل، هل يكفي الشركات الناشئة الحالية لاستيعاب مزيد من التنقل الوظيفي؟ وهل يعد مبررا مقبولا لكسر حالة التدرج الطبيعي في تراكم الخبرات؟ هل سيكون الأثر بعد خمسة أو عشرة أعوام - إن تمدد وتأصل - إيجابيا بالضرورة؟ الحقيقة لا أعلم. من الطبيعي أن يكون مربط الفرس في تدوير القدرات والإمكانات هو المهارة التي تعمل مثل الأجنحة تطير بصاحبها من مكان إلى آخر، ولكن لا أعلم مدى قدرة الموظف على مصاحبة هذا الحجم من المخاطر "الطبيعية والمعتادة" في الشركات الناشئة.
من ينظر إلى وفرة الأدوات والبرامج الداعمة للشركات الناشئة، مع تطور القائمين عليها من مؤسسين ومستثمرين ومنظمين، يعلم أننا نعيش في واقع مختلف جدا عن الأعوام الخمسة أو العشرة الماضية، حجم التفاعلات الحقيقية في هذه البيئة تم إثباته بتكون الخبرات وإتمام الصفقات. ولكن من ينظر كذلك إلى العمر الضئيل لهذه التغيرات، وإلى النمو المتسارع في ظروف وسياقات هذه العناصر وكيف أن بعضها يسبق الآخر، لا يستطيع الجزم بأن العملية تحصل في تناسق وترتيب وتوازن، ولن يجزم بأي نتيجة محتملة حتى يتزايد زخم النتائج الحقيقية كما تزايد زخم التفاعلات والأخبار.
إنشرها