Author

في الدفاع عن اقتصاد التحول الرقمي «2 من 2»

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

خلص المقال السابق إلى أن اقتصاد التحول الرقمي لا يقدم مفاهيم جديدة تستهدف تغيير المفاهيم الاقتصادية التقليدية، لكنه يستهدف تعزيز أساليب تنفيذ هذه المفاهيم، والارتقاء بأدائها. ووسيلته في العمل على تحقيق ذلك هي التقنية الرقمية، وما تقدمه من معطيات متجددة في التعامل مع المعلومات. فعبر هذه التقنية يرتقي اقتصاد التحول الرقمي بمستوى أداء النشاطات الاقتصادية المختلفة. ويشمل ذلك نشاطات توليد الثروة ونشاطات إنفاقها، واستثمار إمكاناتها، وتفعيل الاستفادة منها، إضافة إلى تقديم نشاطات داعمة تفتح آفاقا جديدة للعمل والإنتاج والتنمية. ونتيجة لكل ذلك، يخدم اقتصاد التحول الرقمي كلا من الاقتصاد الجزئي، والاقتصاد الكلي، كما أنه يساعد عبر تسهيل التعامل مع المعلومات على استكشاف متطلبات الاقتصاد السلوكي في المجالات المختلفة. لكنه، وهو يقوم بذلك يتطلب تغييرا في أساليب العمل، وهذا التغيير مرفوض من قبل كثيرين، ربما لأنهم يرون فيه أمرا مستجدا وغير مألوف قد يثير المتاعب.
يرتبط اقتصاد التحول الرقمي بالإنترنت وعالمها السيبراني. ويسمح هذا العالم بأداء النشاطات الاقتصادية المختلفة بصورة أسرع، وتكاليف أقل، وأمان أكبر، وطرق أفضل، تحمل آفاقا متجددة. وتنقسم فوائد هذا الاقتصاد إلى قسمين: قسم يرتبط بالتوفير في معطيات مهمة، كتوفير الزمن، والمساحات، والتكاليف، وغير ذلك، وقسم يتعلق بتقديم معطيات جديدة كالشفافية، والحد من التوتر الناجم عن التنقل، وأمور أخرى مختلفة. ويضاف إلى ما تقدم حقيقة أن لهذه الفوائد أثرين: أثرا تتكرر فيه الفوائد من أجل كل نشاط يتم تنفيذه، كما هو الحال في نشاطات التعاملات الخدمية، وأثرا لمرة واحدة مثل الاستغناء عن المكاتب والقاعات التي لا تعود ضرورة مع العمل سيبرانيا.
ولا بد هنا من الإشارة إلى معطيات التطور المطرد الذي تشهده التقنية الرقمية. فتطور الإنترنت، على سبيل المثال، جعل استخدامها لا يقتصر على الأشخاص فقط، بل يشمل الأشياء أيضا. ويضاف إلى ذلك بروز تقنية الذكاء الاصطناعي التي تدعم القدرات الإدراكية للإنسان، وتسمح بتشغيل منظومات ميكانيكية ذاتيا، أو بتحكم الإنسان فيها عن بعد. ويضاف إلى ذلك أنها تسهم في تحليل البيانات، واستخراج المفيد المستهدف من مضامينها. وتصب معطيات هذا التقدم في تعزيز إمكانات اقتصاد التحول الرقمي، وفتح آفاق متجددة للعمل السيبراني وتطوير أدائه نحو الأفضل.
تقول حقائق تقنيات اقتصاد التحول الرقمي، إنه جاهز لتقديم خدماته للنشاطات الاقتصادية المختلفة، بل إنه قدمها ويقدمها بالفعل، لكن مزيد مطلوب أيضا. ولا شك أن فيروس كورونا الخبيث قد دفع باتجاه تنفيذ نشاطات كثيرة عبر التقنية الرقمية، ليعطي بذلك تجربة مفيدة لمزايا هذا الاقتصاد. لكن المشكلة أمامنا تقول إن هناك تراجعا عن أداء بعض النشاطات رقميا، فضلا عن التردد في الإقدام على متابعة تطور التقنية والاستفادة من معطياتها المتجددة في التطوير المستمر لأداء نشاطات مختلفة أخرى. فلا يزال بعض الجهات، وفي شتى مجالات العمل، تحرص على حضور منسوبيها إلى موقع العمل، خلال ساعات العمل المحددة، حتى إن كانت طبيعة عملهم معلوماتية ولا تحتاج إلى ذلك.
يقدم اقتصاد التحول الرقمي، عبر تفعيله استخدام التقنية الرقمية ومواكبة تقدمها، فاعلية أكبر، وكفاءة أعلى، ورشاقة ذات استجابة أسرع، لكثير من النشاطات في مختلف مجالات الحياة، حيث يؤدي ذلك إلى توفير في معطيات مهمة، وتقديم معطيات جديدة كما أسلفنا. لكنه مع ذلك، يواجه بعض المشكلات التي يجب استيعابها والسعي إلى وضع الحلول المناسبة لها. ولعل لهذه المشكلة جوانب عدة، بينها جانبان رئيسان نطرحهما في التالي.
يشمل الجانب الأول قوة العادة التي اكتسبها الناس على مدى الزمن من حيث أداء النشاطات في أماكن معينة، وأوقات محددة، في إطار الحضور المباشر. وهناك جملة مأثورة في أهمية العادة في حياة الإنسان، تقول هذه الجملة: "نحن نصنع عاداتنا بأنفسنا، لكنها بعد ذلك هي التي تصنعنا"، أي إننا نستسلم لها، ولا نخضعها للتفكير أو التطوير، ونرفض السعي إلى تغييرها. وربما ترتبط العادة المطروحة هنا بالجيل الأكبر سنا الذي ألف هذه العادة، وهؤلاء هم في الأغلب من أصحاب القرار في المؤسسات والشركات المختلفة، لأن الأصغر سنا باتوا بحكم النشأة يعتادون أكثر على العالم السيبراني من خلال الأجهزة المختلفة المحيطة بهم، ما يؤدي إلى ابتعادهم، أو ابتعاد أغلبهم عن العادات القديمة لمصلحة بالطبع العادات المرتبطة بهذا العالم.
الجانب الثاني من جوانب إعاقة اقتصاد التحول الرقمي هو جانب تشريعات الوظائف وأداء الموظفين. فالتشريعات التقليدية تعد الحضور إلى مكان العمل في أوقات العمل عاملا رئيسا في الحكم على أداء الموظف. وفي الحرص على تنفيذ ذلك يتم وضع أساليب ووسائل لتسجيل حضور وانصراف الموظفين. في إطار مثل هذا المقياس يتساوى المنجز مع الأقل إنجازا، ويتم إضافة إلى ذلك إلقاء ستار يحجب حالة البطالة المقنعة، حيث لا عمل فعليا يذكر لبعض العاملين. ويحتاج تنفيذ اقتصاد التحول الرقمي على نشاطات الموظفين إلى تشريعات جديدة تقوم بتقييم أداء الموظف على أساس منجزاته واستجابته لمتطلبات وظيفته، ويؤدي هذا التنفيذ أيضا إلى الكشف عن البطالة المقنعة، وتحويل من يعانون ذلك إلى وظائف مفيدة تعزز الأداء الاقتصادي وتزيد معطياته.
تحتاج التنمية والقدرة على المنافسة إلى مواكبة تطلعات العصر. ويعد مستوى أداء النشاطات المختلفة معيارا مهما، في هذا المجال، ينبغي أخذه في الحسبان. وتظهر هنا مسألة تنفيذ النشاطات الاقتصادية المختلفة بأداء متميز، يعزز توليد الثروة، ويدعم حسن إنفاقها، ويفعل جدوى استثمارها في الأعمال المختلفة. كما تبرز التقنية الرقمية كوسيلة مهمة لتحقيق ذلك وبناء اقتصاد التحول الرقمي. وقد بدأت المملكة في ذلك بالفعل، وأبلت بلاء حسنا في تجهيز بنيته التقنية الأساسية، ثم في استخدامه في مقاومة فيروس كورونا الخبيث. والأمل أن يبقى اقتصاد التحول الرقمي فيها متطورا باطراد مع تطور التقنية الرقمية، دون إعاقة قد تسببها عادات العمل التقليدية، أو تشريعات سابقة لتقييم أداء العاملين.
إنشرها