Author

أنماط العمل بفعل كورونا

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"العودة إلى المكاتب، تساعد الشباب على مسيرتهم المهنية"
ريشي سوناك، وزير الخزانة البريطانية
يعتقد رؤساء شركات ومؤسسات في قطاعات مختلفة حول العالم أن دراسة ما أصبح يعرف بالعمل من المنزل ضرورية جدا، حتى بعد إعادة فتح الاقتصادات في العالم، وعودة الحياة إلى طبيعتها في أغلب الدول. والعمل من المنزل المفروض قسرا على الموظفين هنا وهناك بسبب تفشي فيروس كوفيد - 19 على مدى أكثر من عام ونصف العام، طرح في الواقع أسئلة حول جدوى العمل من المكاتب، ولا سيما لأولئك الذين يستطيعون أن ينجزوا أعمالهم عبر شبكة الإنترنت والخدمات المساعدة التي توفرها البرامج الداعمة في هذا المجال. وهذه الأسئلة صارت مشروعة يوما بعد يوم، والشواهد على جدوى العمل من المنزل كثيرة، بما في ذلك النتائج المرضية لهذا الأداء العملي الطارئ. فحتى التعليم عن بعد نجح بصورة أو أخرى، وأخذ شكلا طبيعيا بعد حملات من التشكيك في نجاحه أو واقعيته.
والحق: إن العمل عن بعد أو وراء الأبواب المغلقة، ليس جديدا. فمع الابتكارات الإلكترونية التي لا تنتهي، أغلقت مؤسسات وشركات ومصارف فروعا لها حتى قبل تفشي كورونا. بل حتى المراكز الحكومية الخدمية انخفض عددها إلى مستويات كبيرة. في العقدين الماضيين، فضلا عن مكاتب السفر والسياحة والحجوزات، ومراكز التسوق بكل أنواعه بما فيها تلك المختصة بالمواد الغذائية والتموينية. أي: إن العمل عن بعد، وتوفير الخدمات المطلوبة عبر الإنترنت ليس جديدا على الساحة. وفي الأعوام الماضية، شهدت دول أوروبية إلى جانب الولايات المتحدة، موجة من العاطلين عن العمل، بسبب الاعتماد المتصاعد على الإنترنت وقنوات الاتصال الإلكترونية للحصول على الخدمات. حتى إن جهات مختصة في التشغيل في المملكة المتحدة أطلقت برامج تدريب تستهدف أولئك الذين فقدوا وظائفهم بسبب سيطرة الخدمات الإلكترونية المختلفة.
الآن بعد عودة الحياة إلى طبيعتها، بعودة الحراك الاقتصادي إلى الساحة، وجدت شريحة من رؤساء الشركات والمؤسسات في الغرب، أنه يمكن مواصلة العمل عن بعد إلى أجل غير مسمى، بل بالإمكان اعتماد هذه الأداة الإنتاجية، كوسيلة أصيلة لمزاولة الأعمال. واللافت أن حي المال في لندن المعروف باسم "حي السيتي، أو سكوير مايل"، صار ينظر إلى هذه المسألة بجدية. فكورونا التي أجبرت الحكومات على اتخاذ تدابير الإغلاق، حولت هذا الحي إلى منطقة أشباح بكل معنى الكلمة، في حين أن شركة واحدة متوسطة الحجم تعمل في هذه المنطقة توظف ما لا يقل عن 70 ألف شخص. أوليفر بيته، رئيس شركة التأمين العملاقة أليانتس، كان واضحا بقوله: إن العمل من البيت سيستمر حتى بعد نهاية وباء كورونا، علما أن شركته توظف 140 ألف شخص حول العالم.
ويستند دعاة أهمية العمل من المنزل أو عن بعد، إلى أن مستوى الإنتاج لم يتراجع. بل إن شركات كبرى، تتحدث عن ارتفاع مستوى الإنتاج، لأسباب عديدة، في مقدمتها إمكانية مواصلة العمل لما بعد الدوام الرسمي إذا ما اضطر الأمر لذلك، فضلا عن البيئة المريحة للموظف في منزله، إلى جانب عدم شعوره بالضغوط المباشرة. ولا شك أن هؤلاء يضعون في اعتباراتهم أيضا، انخفاض التكاليف التشغيلية، وهذه نقطة مهمة تسعى أي شركة في العالم لتحقيقها بأي صورة من الصور. وعلى المدى البعيد، لن تكون الشركات التي تسمح لموظفيها أو نسبة منهم بالعمل من المنازل مضطرة لدفع أموال طائلة على إيجارات المكاتب، خصوصا تلك التي تقبع في مناطق كحي لندن المالي أو "وول ستريت" في نيويورك، أو أحياء مشابهة في برلين وباريس وأمستردام وغيرها.
ربما لن يتم في المستقبل اتباع نمط العمل من المنزل بشكل كلي. إلا أن ما يمكن وصفه بتجربة كورونا أوجدت أنماط العمل الهجينة. فمجموعات مصرفية عملاقة معروفة، مثل باركليز وإتش إي بي سي، ترى أن النمط الهجين سيكون مناسبا في المرحلة المقبلة. فحتى في هذه الأيام هناك من يخشى الإصابة بكوفيد - 19 عبر الاتصال المكتبي المباشر أو في المواصلات العامة، أو الأماكن المشتركة. وهناك شرائح من البشر، بدأت تنظر للأمور بشكل مختلف تماما، حتى بعد أن تعود عجلة الاقتصاد والمجتمع للدوران إلى ما كانت عليه قبل الجائحة العالمية المرعبة. بالطبع، سيؤثر توجه العمل من المنزل أو نمط العمل الهجيني بين البيت والمكتب سلبا في الحراك الآخر المتصل بالموظفين، فحركة السوق ستتراجع، والإنفاق سينخفض، ما يشكل أزمة أخرى.
وفي كل الأحوال، لا تشجع الحكومات على العمل من المنازل، لأسباب تتعلق بأهمية العودة إلى المكتب، وتعزيز القطاعات المرتبطة في المجال. بل هناك من ذهب أبعد من ذلك بالقول: إن العمل من المكتب يمثل إضافة ضرورية لشريحة الشباب التي تخوض غمار العمل في كل القطاعات. لكن الشركات تنظر للأمور من زاوية مختلفة جدا، تستند إلى تخفيف تكاليف التشغيل في الدرجة الأولى، خصوصا إذا ما كان الإنتاج من البيت مماثلا من حيث الزخم والجودة للإنتاج من المكتب.
إنشرها