Author

توطين مهنة المحاسبة ومخاطرها على الحوكمة

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
يقول نيقولا حداد في كتابه "فلسفة الوجود": إن التعمق في المعرفة العلمية يعد فلسفة، وفي فلسفة الوجود، يرى أن انحلال كتل الكون إلى ذرات أولية متماثلة يدل على أن المادة شكل واحد متعدد الذرات، وأن ذرة واحدة لا تبني كونا غير نفسها، وأن ذرات عديدة متماثلة تبني كونا واحدا بسيطا لا تمايز بين أجزائه، لكن حدوث حركة الذرات في المكان، يؤدي إلى تنويع الأبنية الكونية، فالكون على صوره العديدة مختلفة الأشكال مكون من هذا الثالوث: المادة والحركة والمكان. ثم في مناقشة عبقرية، يضع حداد هذا السؤال الكبير: هل يكفي لبناء الكون مجرد وجود هذا الثالوث؟ يجيب عن السؤال بقوله: إن هناك ارتباطا بين أجزاء الكون، فنعلم أن هناك وجودا آخر معنويا لهذا الارتباط، وهو هندسة النظام، وهكذا فإن الوجود مبني من أربعة أشياء، هي: المادة، الحركة، المكان، والنظام.
ثم يسأل نيقولا حداد هذا السؤال الخطير جدا: هل كان ممكنا أن ينتظم الكون نظاما آخر غير نظامه الحالي الذي نعرفه؟ أم أنه يستحيل أن يكون له نظام آخر غير هذا؟ يجيب عن هذا السؤال بظاهرة سلسلة السببية، سلسلة النظام، التي تكون كل حلقة منها سببا لحلقة أخرى بعدها، الظاهر لنا من هذه السلسلة، أنه لا يحتمل أن يكون للكون إلا نظام واحد.
ولن نذهب بعيدا في أفكار نيقولا حداد بشأن وجود المنظم، لكن من المهم في هذه المقدمة، أن نفهم أن فهم الوجود لأي نظام، هو أساس العلم الحديث، وهو ملزم لنا بسبب السببية، التي تم تركيب عناصره بناء عليها، فلا يمكننا فهم أي نظام إلا من خلال فهم وجوده، وإذا أثبتنا وجود نظام من خلال العناصر المركبة له، فلا يمكننا بعدها ابتداع نظام جديد من عندنا، إلا إذا أثبتنا علميا أيضا أن النظام الأول غير موجود أصلا، أو أن أحد عناصره قد انحل تماما.
عندما نفكر بالطريقة العلمية، لا يسعنا إلا هذه الطريقة، وإلا فإنه سيكون لكل منا نظامه الذي يبتدعه من عنده، ويفسر به العلاقة بين المادة والحركة والمكان، ولن تكون لدينا مادة علمية صلبة ننقلها للأجيال المقبلة، ولن تكون لدينا مفاهيم مستقرة، ولا إصلاحات للنظم القائمة، فوحدة العالم في نظرنا أساس للعملية التعليمية، وفي هذا الإطار كله، أناقش موضوع الحوكمة كنظام قائم بذاته، مكون من عناصر أساسية، نعلمها للطلاب في علم متكامل، وأي تعديلات أو فرض مفاهيم أو علاقات خارج سياق هذا النظام، هي نفي لوجوده أصلا.
وفي هذا السياق، فإن توطين مهنة المحاسبة بإجبار جميع المنظمين لنظام الحوكمة وإدارة الأعمال على التسجيل في هيئة المحاسبة والمراجعة، يعد بلا شك عندي، نفيا لوجود عناصر أساسية في الحوكمة، وأقلها الاستقلال المهني، وبهذا ينتفي وجود الحوكمة تماما.
إذن: المسألة ليست مجرد تسجيل مهني، بل مسألة وجود مهني أصلا، كيف لنا في الجامعات أن نعلم الطلاب الاستقلال المهني والجمعيات المهنية المستقلة والمتعارضة والخطوط الثلاثة، ثم نأتي في الواقع لنجبرهم جميعا، باختلاف تخصصاتهم، على التسجيل في مهنة واحدة، متجاهلين كل الجمعيات الأخرى وكل ما يتبعها من مؤسسات دولية ومعايير ومفاهيم متعارضة مع كل ما يمارسونه من عمل، وما تعلموه من مفاهيم.
الحوكمة، نظام متكامل من ثلاثة خطوط، وإن كنت سأقسم هذه الخطوط بين تخصصات كليات الأعمال، فإنني أضع الخط الأول لأقسام الإدارة، سواء إدارة الأعمال أو التخطيط الاستراتيجي أو الموارد البشرية، والتسويق والتمويل ثم يأتي الخط الثاني، الذي أضع فيه المحاسبة المالية ومحاسبة التكاليف والمحاسبة الإدارية والقانون، وإدارة المخاطر، والجودة، الرقابة، ثم الخط الثالث، وأضع فيه المراجعة الداخلية والمراجعة الخارجية والمراجعة الحكومية وتخصصات مكافحة الغش، وهكذا فالحوكمة لا يمكن أن يدرسها قسم واحد أو فرع واحد، ولكل تخصص مدخلاته وجهوده في الحوكمة، وإذا تخرج الطلاب في الكليات ذهب كل إلى تخصصه، وسجل العضوية في الجمعية التي لها علاقة به، مثل: جمعية المراجعين الداخليين، وجمعية المحاسبين الإداريين، وهيئة المحاسبة، وجمعيات الإدارة والاقتصاد بمختلف أنواعها. هذا هو الكون الذي يعمل فيه المختصون في الأعمال، والمحاسبة والمراجعة، إذن، هو فضاء واسع، فكيف نفسر وجوب تسجيل كل هؤلاء في هيئة المحاسبين فقط؟ وهي لها شروط خاصة بمهنة خاصة، وهي المحاسبة المالية، ومن ضمنها استكمال عدد ساعات معينة، ما أجبر البعض من غير المختصين ابتداء، على أخذ دورات مكلفة ليسوا بحاجة إليها، إلا من أجل قبول توطينهم، وتكلفهم مبلغا كبيرا في كل عام، وهذه تكاليف باهظة يتحملها المواطن الباحث عن العمل.
مهنيا، ترفض الهيئات الدولية، مثل: المعهد الدولي للمراجعين الداخليين، أن تكون له علاقة مباشرة مع المراجعين الخارجيين و المحاسبين الماليين، مثل هذا يوجد شكوكا حول الاستقلال المهني، وهناك نقاش طويل في معايير المراجعة الخارجية حول استخدام أعمال المراجعة الداخلية، وشكوكا كبيرة في هذه المسألة وأبحاثا لا تتسع أوراقها غرفة كبيرة، ذلك أن المراجعة الداخلية في نظر المراجعين الخارجيين، هي جزء من أعمال العميل، المحاسبة الإدارية بكل فنونها تعمل لخدمة الإدارة، بينما المراجع الخارجي يعمل لخدمة المستثمرين والعموم، فهل يسع أن نجبر كل هؤلاء على هذه التناقضات بالتسجيل المهني في هيئة واحدة، لمجرد أنها وضعت اسمها، المحاسبة والمراجعة بهذا العموم.
إنشرها