Author

إدارة السوق بمسؤولية والتزام 

|

تتبع السعودية وتحرص على سياسة راسخة وثابتة ومتوازنة في أسواق النفط العالمية. ولا يزال العالم يقدر ويثمن لها دورها المهم في محافظتها على توزان الأسعار والإمدادات باعتبارها المحرك الأساس في هذا القطاع الحيوي. ولعبت الرياض على مدى عقود طويلة دورا استراتيجيا في قيادة السوق من حيث تخفيض الإنتاج إذا كان المعروض كبيرا، أو زيادته إذا زاد الطلب، وظلت دائما ملتزمة بقراراتها.
ومن هنا، فإنه ليس بمستغرب أو بمحض الصدفة أن يصرح روبرت يوجر المدير التنفيذي لقسم عقود الطاقة الآجلة في مجموعة "ميزوهو سيكيوريتسز" Mizuho Securities المالية أخيرا، بأنه يتوجب على منظمة أوبك - وكذلك قطاع صناعة الطاقة بأكمله - أن يشكروا السعودية على وظيفتها "الرائعة"، التي أدتها في إدارة إنتاجها خلال جائحة كوفيد - 19.
ولا شك أن السعودية تقوم بعمل ضخم لتحقيق مصلحة عالمية مشتركة من خلال رسالة متعددة الأبعاد تعكس في مضامينها مسؤولية كبيرة والتزاما أكبر. وهناك كثير من الأدلة على أن ما فعلته المملكة في السوق النفطية هو للمحافظة على توازن السوق ودعم الاقتصاد العالمي، وخير مثال لذلك أنها ضحت خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي بحصتها في السوق لدعم الأسعار، لأنها أدركت حينها أن الصراع على الحصص قد يقود مؤشرات السوق إلى الهاوية، بينما لم تستكمل هذه الصناعة كثيرا من مقوماتها، ولم تزل بحاجة إلى مزيد من الاستثمارات، وقد تدنت الأسعار في تلك الحقبة من سقف 40 دولارا حتى وصلت إلى أقل من ثمانية دولارات للبرميل. 
وعملت الرياض، من خلال منظمة أوبك، على المحافظة على التوازن رغم عدم وجود آليات واضحة للعمل والاتفاق على حصص الإنتاج مع الدول من خارج "أوبك"، وأهمها روسيا.
نعم، على العالم أن يشكر المملكة على جهودها الكبيرة ووقوفها الإيجابي من أجل استقرار الاقتصاد العالمي ونموه، حتى في ظل ارتفاع الأسعار تزامنا مع الأزمة المالية العالمية 2008، فوصلت الأسعار إلى أكثر من 100 دولار، وأسهمت السعودية مع الشركاء في "أوبك" في تعويض إنتاج إيران والعراق، ومع خروج ليبيا ونيجيريا بسبب الاضطرابات السياسية.
وفي هذا الصدد، تحركت السعودية على إحداث توازن منطقي بين العرض والطلب، لتحافظ على الأسعار عند مستويات مقبولة للجميع، وهذا النقص في الإمدادات حفز صناعة النفط الصخري، التي لا تجد توازنها إلا عند مستويات أعلى من 60 دولارا. وحذرت السعودية من مخاطر عدم وجود اتفاق وتعاون قوي بين المنتجين في ظل تحول الولايات المتحدة من مستورد للنفط إلى مصدر له مع تطور صناعة استخراج النفط الصخري هناك، وانتهت تلك الحقبة وتراجعت الأسعار حتى أدنى من 40 دولارا، ووصلت صناعة النفط والاستثمارات الضخمة فيها إلى حدود وسقوف خطيرة، وكان واضحا جدا أن العلاقات بين المنتجين بحاجة إلى حوكمة جديدة.
 ومرة أخرى، يتبين أن السعودية القائد الحقيقي لهذا القطاع، ولأن الوضع لم يكن قابلا لهدر الوقت حتى تقوم السوق بإصلاح نفسها مع قدرة الاقتصاد العالمي على النمو بقوة حتى ترتفع مستويات الطلب بشكل كبير، لكن هذا لم يحدث، وأن تجربة الكساد العالمي في القرن الماضي تؤيد وتثبت هذه النقطة. وهنا، تحركت السعودية لإعادة هيكلة القطاع وآليات القرار فيه، ولا نزال نتذكر الزيارة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين، لروسيا، ثم ما تلاها من رحلات لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، للوصول إلى آلية عمل جديدة تجمع "أوبك" بالمنتجين من خارجها.
ونجحت المملكة مجددا في تشكيل تحالف "أوبك+"، مع تحديد آليات حوكمة ذات تأثير في القرار ولجان رقابية واجتماعات دورية، ونتج عنها ارتفاع أسعار النفط إلى ما فوق 60 دولارا، ويسجل التاريخ تلك الإشادة التي قالها الرئيس الروسي بوتين، بجهود الأمير محمد بن سلمان، وقدرته على إصلاح ماهية اتخاذ القرار في السوق النفطية. واستمر هذا الوضع حتى أزمة انتشار جائحة كورونا مطلع 2020، التي تسببت في رعب كبير جدا مع توقف عجلة الاقتصاد العالمي تماما، ودخول الإغلاق الكبير حيز التنفيذ في الصين والولايات المتحدة وسائر دول الاتحاد الأوروبي. وخلال تلك اللحظات المخيفة والمتقلبة من تاريخ سوق النفط، بدا وكأن تحالف "أوبك+" قد انتهى تماما، واتجهت كل دولة إلى المخاطرة بالأسعار للمحافظة على الحصص، واستمر الإنتاج مرتفعا في ظل الإغلاق، الذي عم الأسواق العالمية.
وعلى الرغم من تحذيرات السعودية المستمرة والعمل الجبار في ذلك الوقت، إلا أن الفوضى عمت الأسواق وانهارت الأسعار بشكل تاريخي في يوم واحد إلى دون الصفر، وفي تلك اللحظات الخطيرة على الاقتصاد العالمي وأسواق المال قاطبة، كانت الأنظار كلها تتجه نحو السعودية لإصلاح الخلل، وكانت كما عهدها الجميع في الموعد تماما بشرط أن يلتزم الجميع بالقرار السعودي، وتم ذلك في غضون أشهر قليلة، حيث عادت "أوبك+" أقوى من ذي قبل، وتم تخفيض الإنتاج بشكل كبير بما يتناسب مع حالة الاقتصاد العالمي، وتقدمت المملكة سفينة المنتجين بتخفيضات طوعية، مع أنها تواجه ما يواجه العالم من تحديات الإغلاق بسبب انتشار الجائحة، حتى عادت الأسعار إلى مستويات ما قبل الأزمة، بل تجاوزتها. 
وأثبتت الأحداث التاريخية بأن السوق النفطية تحتاج إلى قيادة وتوجيه، لسلامتها وأيضا الاستثمارات في القطاع، والمحافظة على التدفقات العالمية من الطاقة، كما أن السوق تواجه أنواعا مختلفة من الصدمات وتقلبات مستويات الإنتاج، كما ثبت أن تحديد مستويات الإنتاج الملائمة للاقتصاد العالمي يحتاج إلى اتفاق بين المنتجين، وأن كثيرا من الدول لا يتحمل الصراع على الحصص وحرب الأسعار. وخلال الأيام القليلة الماضية من تموز (يوليو) الحالي، كان العالم بأجمعه يراقب اجتماعات "أوبك+" بشأن رفع مستويات الإنتاج، وتحديد الحصص الجديدة، وتبين مجددا أن العالم بحاجة إلى حكمة السعودية لإدارة وقيادة هذه السوق، وهذا ما يؤكده المدير التنفيذي لقسم عقود الطاقة الآجلة في مجموعة "ميزوهو سيكيوريتسز" Mizuho Securities المالية، أنه "من الأفضل ترك السوق بالكامل في يد السعودية لإدارتها. لقد قاموا بعمل رائع".

إنشرها