Author

معركة الغرب ضد الرموز خاسرة

|
أستاذ جامعي ـ السويد

قد لا يمر أسبوع إلا وهناك قصة حول الرموز الدينية في الغرب. ومن غرائب الصدف، أن الرمز مدار الحديث - في الأغلب - يحمل دلالات أو مضامين إسلامية.
قد لا نبتعد عن الواقع إن قلنا إن الغرب يشهد صراعا، أو بالأحرى حربا ضد الرموز الدينية، خصوصا الرموز التي لها مفاهيم وممارسات لدى الأقليات المسلمة في البلدان الغربية.
وقبل الولوج في خضم الموضوع، علينا الاعتراف بأننا مدينون للغرب وعلمائه، لأنهم سبقوا الدنيا في استنباط علم خاص يشرح لنا، تنظيرا وممارسة، أهمية الرموز في حياتنا.
وبحسب هذا العلم - وبإيجاز شديد - نحن لسنا إلا الرموز التي نحملها. والرمز "الشارة أو العلامة"، يشير إلى شيء موجود في الطبيعة، أي بإمكاننا رؤيته أو التحسس به، أو أمر معنوي غير حسي، يشير إلى حالة يستوعبها عقلنا، رغم عدم توافرها في الطبيعة.
وأفضل مثال للرمز هو، العلم الذي ما هو إلا قطعة قماش ذات ألوان، بيد أن مدلول العلم وقيمته المعنوية والإنسانية والوطنية، تفوق كثيرا كونه قطعة قماش.
الدفاع عن العلم - رغم كونه قطعة قماش - ترقى إلى الدفاع عن الوطن برمته. كم من جندي أو مقاتل لقي مصرعه وهو يرفع علم بلده في ساحة الوغى؟
إذن، الرموز بشتى أشكالها وألوانها والمادة المصنوعة منها، ما هي إلا جزء لا يتجزأ من تكويننا وواقعنا الاجتماعي والثقافي.
ولهذا، كلنا رموز، لأن الرموز تشكلنا ونحن نعكس في تشكيلتنا الاجتماعية والثقافية، الرموز التي نحملها. وتأتي - بطبيعة الحال - اللغة في مقدمة الرموز أو العلامات ذات الدلالات المختلفة. إذن، الرموز هي التي تشكل لنا حياتنا نحن البشر، وحياتنا، أي الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، فما هو إلا انعكاس لهذه الرموز.
وقد يكون علم السيميائية semiotics، الذي يعنى بدراسة دور الرموز في حياتنا، من أهم فروع العلوم الاجتماعية.
لا أظن هناك جامعة أو معهدا عاليا في الغرب إلا وله علماء متخصصون بهذا الحقل، ولا أظن هناك مضمارا معرفيا، ومن ضمنه علوم الطب والتمريض والاقتصاد والإدارة واللسانيات، وغيرها من المعارف، إلا ولها مقررات تتبنى علم السيميائية كنهج تحليلي وتفسير للواقع الاجتماعي.
ولأن الأروقة الجامعية في البلدان الغربية متشبعة بعلم السيميائية هذا، فقد كان لقرار محكمة العدل الأوروبية في منتصف هذا الشهر، القاضي بمنح أصحاب العمل الحق في منع العاملات المسلمات لديهم من ارتداء الحجاب، وقع الصاعقة.
والغرابة، لا بل الصدمة، كانت عندما زج القرار الصادر من أعلى مستوى للمحاكم في الدول الغربية، التي تقول إنها تملك دساتير تقدس الديمقراطية وحرية الكلام والعبادة وغيرها، رموز أديان أخرى مثل المسيحية واليهودية في خضم الصراع الدائر حول الحجاب أو أي رموز إسلامية أخرى.
ما يجب التركيز عليه هنا - وهذا ما يعلمنا إياه علم السيميائية - أن الرموز تختلف دلالاتها أو حتى قدسيتها من ثقافة إلى أخرى، ومن شعب إلى آخر، ومن زمن إلى آخر.
العمامة لدى السيخ - مثلا - تعد جزءا مكملا للرأس، لقدسيتها لديهم. إجبار سيخي ملتزم على رفع عمامته قد يرقى إلى الطلب منه قطع رأسه.
والحجاب والعمامة ترافق أزياء رجال الدين في كثير من الأديان. مثلا، لن ترى راهبة في المسيحية داخل أو خارج ديرها دون حجابها ولباسها المحتشم. وحجاب الراهبة أكثر كثافة وتغطية للوجه من الحجاب الذي ترتديه المسلمات الملتزمات في الغرب.
أنا هنا لست في مرد محاسبة الناس وممارساتهم إن كانت حميدة أم لا. الله سبحانه وتعالى هو الذي سيديننا على أعمالنا، لكن لا أرى ضيرا أبدا في أن يعبر الناس بحرية عن هوياتهم الدينية، لا بل في أن يكون لهم الحق الكامل في ذلك، وبالطريقة التي يرونها مناسبة.
من حق الراهبة أو الراهب أو الأسقف أن يرتدي صليبه أو يعبر بوساطته عن هويته الدينية، بغض الطرف عن الغرابة التي قد تنتاب البعض من هذا الرمز، حيث إن الصليب تاريخيا يشير إلى أفظع أنواع التعذيب التي واجهها الإنسان.
منح أصحاب العمل في الغرب الحق في فصل العاملات المسلمات لأنهن يرتدين الحجاب، وتشخيصهن بهذه الطريقة، عمل تمييزي ومؤشر للتمييز الديني، ولا أظن أن ذلك سيطبق على العاملات أو العمال الآخرين من الذين يرتدون مثلا الصلبان أو القلانيس أو العمامات.
قرار المحكمة الأوروبية، رغم منحه طابعا عاما، فيه شخصنة ومباشرة ترقى إلى إهانة الرمز، وهو "الحجاب" الذي يرى فيه كثير من المسلمات جزءا مكملا لهويتهن، كما هو الحال مع أتباع الأديان الأخرى والرموز التي يحملونها.
إذا كان الغرب الذي يدعي الحرية، وعلى رأسها الحرية الشخصية، ينقلب على مبادئه ويخشى وجود بضع عاملات مسلمات محجبات ضمن عشرات وعشرات الملايين من العاملات في بلدانه، فكيف له أن يعظ الآخرين أو يحثهم على قبول مسلماته ومبادئه؟
محاربة الرموز، وأغلب الرموز بريئة، ارتدت وبالا طوال التاريخ. في إمكان أصحاب السلطة فرض واقع حال يمنع ارتداء أو تداول رمز ما، لكنهم ينسون أن الرموز وإن أجبرنا على خلعها، تبقى راسخة في وجداننا، وأن زيادة الضغط لمنعها يزيد معتنقيها تشبثا وإيمانا بمعانيها ومدلولاتها. ومن هنا، فإنني أرى أن الغرب قد خسر للتو صراعه مع الرموز، إسلامية كانت أم غيرها.

إنشرها