Author

الذكاء الاصطناعي في استراتيجية وطنية «2 من 2»

|

يشغل الذكاء الاصطناعي بال العالم بأسره، فهو يتمتع بإمكانات إدراكية تعطي امتدادا لقدرات العقل البشري. وتستطيع هذه الإمكانات التفوق على العقل البشري ذاته في بعض خصائص تعاملها مع البيانات، كالسرعة في معالجتها لها تبعا للمتطلبات، وكحجم البيانات الذي يمكن استيعابه في هذه المعالجة، ناهيك عن القدرة على تنفيذ معالجات مختلفة للبيانات في وقت واحد. ويسهل ذلك، بل ويسرع أيضا، اتخاذ بعض القرارات في مختلف المجالات. فليست التقنية الرقمية التي ينتمي إليها هذا الذكاء أحادية في طبيعتها، بل هي تعددية قادرة على الارتباط بمنظومات مختلفة، والتحكم في وظائفها، كمنظومات البنى الأساسية في الدول المختلفة، ومنظومات "الروبوت" العاملة في شتى المجالات. وما يمكن أن نستخلصه هنا هو، أن نطاق التأثير لهذا الذكاء واسع ومتجدد، يواكب المسيرة العلمية التي يشهدها العالم، بل يفعلها أيضا. ولعله لا بد من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن العقل البشري يبقى متفوقا على هذا الذكاء، في خياله وعمق رؤيته، وفهمه لشؤون الحياة، وفي قدرته على الإبداع والابتكار، وتقديم معارف جديدة.
على أساس ما سبق، وإدراكا لأهمية الذكاء الاصطناعي وتأثيره اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، بدأت الدول المختلفة الحريصة على التعامل معه، والاستفادة منه، ومنذ عام 2017، بوضع استراتيجيات وخطط وطنية لهذا الذكاء. وقد تحدثنا، في المقال السابق عن "الاستراتيجية الوطنية الألمانية للذكاء الاصطناعي" الصادرة عام 2018، وبينا انطلاقها من شمولية "منظومة الأمة Nation Ecosystem"، التي تستند إلى نظرة واسعة المدى تتضمن ثلاثية "المعرفة، واللاعبين الاقتصاديين، والمجتمع وكل أبنائه". كما تطرقنا إلى محاور توجهات العمل السبعة التي تطرحها، وهي: "تعزيز البحث العلمي، وتنمية المهارات البشرية، والعناية بالبيانات المفيدة، وتطوير البنية التقنية اللازمة لتقدم الذكاء الاصطناعي، والاهتمام بالتطبيقات التي تتمتع بعطاء اقتصادي، وأخذ الجوانب الاجتماعية والأخلاقية في الحسبان، إضافة إلى التفاعل مع مسيرة العالم نحو المستقبل".
سنتحدث في هذا المقال عن "الاستراتيجية الوطنية السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي"، الصادرة في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2020، عن "الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي"، ووثيقة هذه الاستراتيجية متاحة على موقع الهيئة. والغاية من هذا المقال، وسابقه، هي إبراز توجهات الدول نحو المستقبل بشأن الذكاء الاصطناعي أمام القارئ، وذلك عبر طرح مثالين يوضحان هذه التوجهات، ويلقيان بعض الضوء على متطلباتها. ولا شك أن التعرف على توجهات الدول بشأن موضوع مهم كالذكاء الاصطناعي، يمكن أن يفيد كل إنسان في البحث عن دور مأمول له في الاستفادة من هذا الموضوع الحيوي، بل في تطويره أيضا.
تحمل وثيقة "الاستراتيجية السعودية" عنوانا جميلا يقول، "لغد نحقق فيه الأفضل"، ويقترن هذا العنوان فيما يجسده من طموح برؤية تقول، "حيث نجعل أفضل ما في البيانات والذكاء الاصطناعي واقعا (ملموسا)". وتركز الاستراتيجية على ارتباطها برؤية المملكة 2030، وتطرح مضامين العمل المطلوب، لتحقيق الطموح المنشود، من خلال ستة محاور رئيسة. كما تعطي أربع مراحل زمنية للتنفيذ وتحقيق المنجزات المأمولة، على مدى الأعوام الخمسة المقبلة. وتؤكد الوثيقة على أولوية خمسة قطاعات رئيسة في ضرورة الاهتمام بالذكاء الاصطناعي. وسنلقي، فيما يلي، بعض الضوء على محاور العمل، والمراحل الزمنية المطروحة، وقطاعات الأولوية في الوثيقة الاستراتيجية.
يقضي المحور الأول لمضامين العمل المطلوب بترسيخ موقع المملكة "كمركز عالمي" لتمكين أفضل تقنيات البيانات والذكاء الاصطناعي. ويهتم المحور الثاني بتطوير "القوى العاملة" في المملكة والعمل على بناء مورد مستدام للكفاءات المحلية المتخصصة في مجالات هذه التقنيات. ويركز المحور الثالث على بناء "البيئة التشريعية" الأكثر تشجيعا للشركات والمواهب المتخصصة في هذه المجالات. ويتطلع المحور الرابع نحو جذب التمويل الفعال والمستقر" للفرص الاستثمارية" المتميزة فيها. ثم يطمح المحور الخامس إلى تمكين أفضل المؤسسات البحثية المتخصصة في هذه المجالات لقيادة الابتكار وتعظيم الأثر. ويهتم المحور السادس أخيرا بتحفيز "تبني تقنيات هذه المجالات" من خلال بنية رقمية متطورة.
بدأت مراحل تنفيذ العمل المنشود، عام 2020، بمرحلة "صياغة الاستراتيجية" وتحديد "مبادرات" ترتبط بمضامين العمل. وتأتي بعد ذلك، هذا العام،2021، مرحلة "تفعيل المبادرات" التي تشمل الاهتمام بمبادرات مختارة تتمتع بأولوية التنفيذ. ثم تنطلق مرحلة "التوسع في التنفيذ" لتشمل تنفيذ مزيد من المبادرات على مدى العامين 2022 - 2023. ومع اكتساب الخبرة تنطلق المرحلة الرابعة نحو تسريع التنفيذ من أجل تحقيق المنجزات المنشودة على مدى العامين الأخيرين للمدى الزمني المستهدف 2024 - 2025.
ونأتي إلى قطاعات الأولويات التي تحددها الاستراتيجية بشأن الاهتمام بخصائص الذكاء الاصطناعي وخدماته، لنجد في مقدمتها "قطاع التعليم"، الذي يجب أن يهتم بتحقيق التوافق بين نظام التعليم، واحتياجات سوق العمل. ويبرز بعد ذلك "القطاع الحكومي"، الذي يجب أن يحرص على استخدام التقنيات الذكية بكفاءة وفاعلية. ثم يأتي "القطاع الصحي"، الذي يجب أن يسعى، عبر التقنيات الذكية، إلى تطوير خدمات الرعاية الوقائية، واستيعاب الطلب المتزايد على الخدمات الصحية. ونصل إلى "قطاع الطاقة"، الذي يمكن أن يستفيد من الذكاء الاصطناعي في تحسين كفاءته وتطوير الجهات الداعمة له. ويبرز أخيرا، "قطاع النقل والمواصلات"، الذي يستطيع إنشاء نظم تقوم على استخدام التقنيات الذكية في التنقل، وتعزيز السلامة المرورية في المدن.
تعطي "الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي" نظرة شمولية إلى الموضوع، تشمل مدى يتمتع بنطاق عريض، وهي تقترب في ذلك من نظرة الاستراتيجية الألمانية إليه، فيما أسمته مدى "منظومة الأمةNation Ecosystem". ولا شك أن الذكاء الاصطناعي يستحق مثل هذه النظرة، لأنه يؤثر، إن لم نقل يغزو، شتى مجالات الحياة. ولا شك، بناء على ذلك، أن تنفيذ الخطط وتحقيق الطموحات بشأنه، يتطلب تعاونا وعملا مشتركا بين جميع القطاعات والجهات المكونة لمنظومة الأمة، فكل وحدة استراتيجية، سواء فرد أو مؤسسة، ستتأثر بالذكاء الاصطناعي، كما أنها تستطيع التأثير فيه. والأمل من الجميع استيعاب حقائق الموضوع، والإسهام في تنفيذ الاستراتيجية، وتحقيق الطموحات المنشودة.

إنشرها