Author

النفط باق بزوال الجائحة أو عدمه

|
أستاذ جامعي ـ السويد
يكون المرء في وضع صعب وشاق ومعقد كلما حاول استقراء المستقبل في عصرنا هذا. الصعوبة تكمن في أن عالم اليوم يختلف كثيرا عن عالم الأمس.
عالم اليوم عالم رقمي وذكي ويحرق الزمن والمراحل. ما كنا نصل إليه في غضون عقود أو عامين صار في إمكاننا الحصول عليه في أشهر أو أحيانا أسابيع.
العصر الصناعي والتكنولوجي الذي نمر به من السرعة بمكان، حيث بالكاد نلحق التواصل مع منجزاته. والمنجزات والاختراقات كثيرة إلى درجة يصعب حصرها أو تعدادها.
في السابق، إن تنبأ شخص عن مسار النفط وأسعاره وعرضه والطلب عليه، كنا ننتظر فترة ليست قصيرة للتحقق من أقواله.
في عصرنا هذا الذي يقوده الذكاء الاصطناعي، صارت التوقعات في أغلب الحقول مسألة حساسة نخشى الولوج فيها لأن ما نقوله اليوم قد يفنده الوضع غدا.
وعندما أعود بذاكرتي إلى الوراء، أرى أن أغلب التوقعات حول النفط وخريطة إنتاجه وأسعاره لم تتحقق، بل سارت ريحها عكس تنبؤات أصحابها، ولا أستثني كاتب السطور.
ولأن السوق النفطية العالمية عرضة للتجاذبات والإرباك أحيانا، أرى أننا لم نفلح في استقراء الخريطة أو خط البيانات التي سيستقر عليها الإنتاج وأسعاره.
كان هناك كم هائل من المقالات والتحاليل حول النفط الصخري أو النفط الرملي وأن الولايات المتحدة ستلعب دور السعودية في تقرير مصير الأسعار والإنتاج وأن الدول المنتجة التقليدية للسلعة من أعضاء الدول المصدرة للنفط المعروفة بـ "أوبك" والمصدرين التقليديين خارجها سينعدم تأثيرهم ويضمحل دورهم في عجلة الاقتصاد العالمي.
والجائحة ما زالت تطل برأسها، رغم أنها أقل وطأة من السابق، وإذا بنا أمام قفزة غير متوقعة في الأسعار وتكهنات أن المعروض من النفط لن يلبي الطلب العالمي.
ولم تصدق التكهنات حول انتفاء الحاجة إلى منظمة الدول المصدرة للنفط وأن دور المملكة في تقرير أسعار النفط ومعدلات الإنتاج لم يعد له تأثير يذكر.
في لفتة ذكية، استطاعت المملكة جذب منتجين رئيسين خارج منظمة أوبك وشكلت ما يطلق عليه "أوبك+" تحت رعايتها محافظة على دورها المحوري في تقرير معدلات الإنتاج والأسعار.
وما يراه البعض "جلبة" في صفوف "أوبك+" أراه خلافا تتحكم المملكة في خيوطه، وعاقبته ستكون لمصلحتها ومصلحة المنتجين.
من خبرتي المتواضعة، فإنني أضع أي خلاف في صفوف الدول المنتجة للنفط ضمن سياقه وإطاره، أي الأبعاد والنتائج خارج نطاق ما قد يراه البعض أنه مشكلة.
وأي نظرة للسياق عليها أخذ الأحداث السابقة ولا سيما ضمن إطار الماضي القريب، حيث له في الأغلب تأثير مباشر في الحاضر.
للتعامل الرشيد مع ظاهرة الإنتاج الصخري، أفلحت المملكة في جذب كبار المنتجين التقليديين مثل روسيا إلى صفوف "أوبك" وصرنا وجها لوجه أمام منظمة قد تكون أكثر تماسكا نتيجة للخبرة الكبيرة والطويلة التي جمعتها المملكة في قيادة "أوبك" سابقا.
صار لـ "أوبك+" سطوة وهالة في الأسواق العالمية، وما نلاحظه حاليا خير دليل، حيث إننا أمام خلاف أراه قليل الشأن لأن تجاوزه من اليسر بمكان، إلا أن تأثيره في الأسعار كبير.
لكن لنفترض أن منظمة "أوبك+" لن تنجح في التوصل إلى اتفاق لزيادة الإنتاج، أي بمعنى بقاء الحصص على ما هي عليه حاليا، فماذا سيقع؟ أغلب التوقعات تشير إلى ارتفاع شديد في أسعار النفط قد تلامس 90 دولارا للبرميل.
الفرضية الثانية هي أن تفشل المنظمة في التوصل إلى حل للخلاف القائم، ويتخلى الأعضاء عن حصص الإنتاج ويغرقون السوق العالمية بالنفط. في هذه الحال ستنهار الأسعار وسيكون المنتجون أول الخاسرين.
إذا نحن أمام فرضيتين، واحدة حسنة والثانية غير حسنة.
لكن الماضي القريب يعلمنا درسا مفاده أن المملكة وإن ضغطت في اتجاه محدد، ستضع مصالحها الوطنية فوق أي اعتبار.
قبل عام ونيف "مستهل 2020"، وقعت ما أطلق عليه في حينه "حرب الأسعار" حيث ضخ المنتجون الكبار بكل طاقتهم بعد إخفاقهم في التوصل إلى حصص مرضية، لكن سرعان ما تداركت المملكة الأمر لأن الغاية كانت عقد اتفاق مستدام.
وهذا ما حدث حيث عقد الأعضاء في حينه اتفاقا تاريخيا حول حصص الإنتاج كان له أثر كبير لمنع انهيار الأسعار حتى والجائحة على أشدها.
لا شك أن المملكة ستفلح هذه المرة أيضا في رص الصفوف كي تكون الأسعار مجزية أولا للمنتجين وبعدها للمستهلكين ولن تسمح بكارثة أخرى كالتي وقعت في عام 2020. وهذا درس من تاريخ وسياق قريب جدا.
أسواق النفط العالمية، ونحن في العقد الثالث من القرن الـ 21، تختلف جذريا الآن عن نظيراتها في القرن الماضي. رغم البون الشاسع بين الأمس واليوم، يبقى عامل واحد دون تغيير يذكر وهو أن النفط رغم كل ما قيل ويقال عن أفول نجمه، بقي سلعة استراتيجية وسيبقى إلى أمد طويل عكس توقعاتنا.
إنشرها