Author

الذكاء الاصطناعي .. في استراتيجية وطنية «1 من 2»

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

للأفكار الجديدة والمتجددة ثلاثة أبعاد رئيسة: بعد الموضوع وطبيعته، وبعد الأثر وسعته، ثم بعد الزمن وآفاق المستقبل بشأنه. وإذا طرحنا هذه الأبعاد في إطار فكرة الذكاء الاصطناعي لوجدنا التالي. في إطار بعد الموضوع نجد أن هذه الفكرة تعطي امتدادا لإمكانات الإنسان الإدراكية، وأنها ترتبط بالتقنية الرقمية، وتنتمي بالتالي إلى العالم السيبراني، وأنها قابلة للتطور والتطبيق في مختلف مجالات الحياة. وفي إطار بعد الأثر نجد أنه نتيجة لطبيعة موضوعها فإن أثرها سيشمل مجالات واسعة، وسيكون متدرجا مع تطور التطبيقات الموعودة وتجددها. وفي إطار الزمن، نجد أن هذه الفكرة، ونظرا لخصائصها سابقة الذكر، تستحق الاهتمام بالتخطيط لها ووضع استراتيجيات بشأنها، من أجل الإسهام في معطياتها المستقبلية، والاستفادة منها على أفضل وجه ممكن.
ونظرا لأهمية الموضوع، واتساع أثره، وآفاق المستقبل الواعد بشأنه، قام كثير من الدول، في مختلف أنحاء العالم، بينها المملكة، بوضع استراتيجيات وخطط بشأن مستقبلها مع الذكاء الاصطناعي. سنطرح في هذا المقال معطيات وثيقة الاستراتيجية الوطنية الألمانية للذكاء الاصطناعي الصادرة عام 2018. ويأتي الاهتمام بهذه الاستراتيجية لسببين رئيسين. يعود أولهما لحقيقة أن ألمانيا دولة صناعية عريقة تتمتع بخبرات متراكمة في التقدم والتميز، وتسهم بصورة رئيسة في توجيه الاتحاد الأوروبي، أحد أهم التجمعات الاقتصادية العالمية. أما السبب الثاني فيرتبط بالنظرة العامة التي بنيت عليها الاستراتيجية، وهي الانطلاق من شمولية منظومة الأمة Nation Ecosystem التي تأخذ في الحسبان عوامل مختلفة، واسعة النطاق، تغطي مختلف جوانب الحياة. وسنطرح معطيات استراتيجية المملكة في هذا الموضوع الحيوي في المقال المقبل بمشيئة الله.
ترى الوثيقة الألمانية أن منظومة الأمة تتمثل في ثلاثة أطراف رئيسة. الطرف الأول بينها هو المعرفة بعلومها الواسعة ومؤسساتها المختلفة القائمة على التعليم والبحث العلمي والإبداع والابتكار وما يرتبط بذلك. والطرف الثاني هو اللاعبون الاقتصاديون، أي: الشركات الكبيرة منها والصغيرة والعاملة في مختلف مجالات الحياة. والطرف الثالث هو المجتمع وأبناؤه الذين يحيطون بكل ذلك، هم مصدر كل جديد، وهم المقصد الذي يسعى إليه هذا الجديد. ولا بد هنا من التأكيد على وجود طرف رابع هو الدولة المسؤولة عن حوكمة المنظومة وتوجيهها وإدارتها. ويضاف إلى ذلك حقيقة أن التوجهات المطلوبة للإسهام في المستقبل، وتأمين مسيرة ناجحة في ربوعه، تتطلب تعاونا فاعلا بين جميع هذه الأطراف، في إطار خطط وسياسات مشتركة، تحقق إنجازات متميزة. وتدخل في إطار أطراف التعاون دول وشركات من الاتحاد الأوروبي معنية بالموضوع.
انطلاقا من معطيات المنظومة، تطرح الوثيقة قضايا الاستراتيجية الوطنية الألمانية للذكاء الاصطناعي من خلال سبعة محاور رئيسة. وتشمل هذه المحاور: تعزيز البحث العلمي في الذكاء الاصطناعي، وتنمية المهارات البشرية القادرة على المنافسة، والحرص على البيانات المناسبة لتطوير هذا الذكاء، وتطوير البنية الأساسية اللازمة للذكاء الاصطناعي، والاهتمام بتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تتمتع بعطاء اقتصادي، والتركيز على الجوانب الاجتماعية والأخلاقية، إضافة إلى التفاعل المنشود بين مضامين الاستراتيجية الوطنية ومسيرة العالم نحو المستقبل. وسنلقي بعض الضوء على كل من هذه المحاور فيما يلي.
إذا بدأنا بمحور تعزيز البحث العلمي، نجد أن الاستراتيجية تعد هذا الموضوع وسيلة لزيادة قوة منظومة الأمة، وترى بناء على ذلك بضرورة زيادة الإنفاق على هذا البحث، وبالذات في مختلف المجالات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. وفي إطار هذه الزيادة تؤكد الاستراتيجية ضرورة رشاقة البحث العلمي في الاستجابة للمتغيرات والتفاعل مع الفرص المتجددة. وتركز الاستراتيجية على توفير بيئة بحث مناسبة تعزز العطاء المعرفي وتدعم القدرة على التنافس مع الآخرين. كما تهتم أيضا بوضع معايير لتقييم الإنجاز البحثي بهدف التعرف على العوائق التي يعانيها والعمل على تقويمها.
في محور تنمية المهارات، تطرح الاستراتيجية مسألة التوسع في وضع مناهج تختص بقضايا الذكاء الاصطناعي في مختلف البرامج التعليمية وشتى المجالات العلمية والتطبيقية. ويأتي ذلك استجابة لمدى تأثير هذا الذكاء الذي يحيط بمختلف مجالات الحياة والمنظومة التي تمثلها. وفي محور البيانات المناسبة لتطوير الذكاء الاصطناعي، يأتي تركيز الاستراتيجية على أساليب الذكاء الاصطناعي، مثل التعلم العميق Deep Learning، التي تستفيد من هذه البيانات في بناء أنظمة الذكاء الاصطناعي في المجالات المختلفة.
ونأتي إلى محور تطوير البنية الأساسية اللازمة للذكاء الاصطناعي، حيث تؤكد الاستراتيجية الحاجة إلى تأمين التقنية المادية HW الحاسوبية المناسبة، على نطاق واسع، من أجل تفعيل تنفيذ أساليب الذكاء الاصطناعي والتعامل مع حجم البيانات الكبيرة التي تحتاج إليها. ونصل إلى محور تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تتمتع بعطاء اقتصادي، حيث تهتم الاستراتيجية بدعم التحول الرقمي، وتشجيع رأس المال الجريء Venture Capital، والسعي إلى تفعيل إمكانات الذكاء الاصطناعي عبر دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة وتأمين ما تحتاج إليه من إمكانات كي تستطيع الإبداع والابتكار وتقديم معطيات متجددة ومفيدة.
وننتقل إلى محور التركيز على الجوانب الاجتماعية والأخلاقية، حيث تركز الاستراتيجية على فتح باب الحوار في هذا الشأن، بمشاركة مختلف الجهات ذات العلاقة، حول وضع تشريعات اجتماعية، وضوابط أخلاقية بشأن تطوير معطيات مجالات الذكاء الاصطناعي وأثرها في المجتمع من جهة، وبشأن استخدامها والاستفادة منها من جهة أخرى. ونصل هنا إلى المحور الأخير للاستراتيجية المطروحة، وهو المحور الخاص بالبعد الدولي للاستراتيجية، حيث تركز في هذا المجال على أمرين رئيسين. أولهما الحرص على القدرة على المنافسة في بيئة اهتمام العالم، خصوصا الدول المتقدمة، بالذكاء الاصطناعي. أما الأمر الثاني فيقضي بالتعاون على تحقيق هذه القدرة المنشودة مع فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى، لأن ذلك في مصلحة الجميع أمام الدول والتجمعات الدولية الأخرى.
وهكذا نجد أن الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، المطروحة في هذا المقال، ترتكز في تطلعاتها المستقبلية إلى منظومة حية هي منظومة الأمة التي تشمل أطرافا وأدوارا عدة، تتواصل معا، وتعمل معا، مستهدفة مكانة متميزة في موضوع مستقبلي متجدد بات يفرض نفسه على الجميع... يتبع.

إنشرها