احتكار التكنولوجيا .. معركة الشركات والدول 

هناك سؤال يطرح في الوقت الراهن حول ما إذا كانت المفاهيم الاقتصادية الراسخة، التي نشأت واعتمدت في القرن الـ20 قابلة للتطبيق في القرن الـ21. وبمعنى أكثر وضوحا، هل المفاهيم الاقتصادية التي هيمنت في الثورة الصناعية ما قبل الرابعة، تتناسب أو تفسر العلاقات الاقتصادية الناتجة مع الثورة الصناعية الرابعة، والعالم الرقمي اليوم؟ لعل أكبر اختبار يواجه العالم اليوم هو تطبيق مفهوم الاحتكار بأنواعه كافة، ذلك المفهوم الذي دارت حوله التشريعات وأنشئت لمراقبته المنظمات الرسمية وغير الرسمية، وعلى أساس منع المحتكرين من تعظيم الأرباح بطريقة تمثل استغلالا للمجتمع ومنع الآخرين من دخول الأسواق والمنافسة، وهو ما يمثل طريقة غير مشروعة للتربح.

إن هذه التهم الخطيرة تجعل الاحتكار عملا غير أخلاقي، ويتنافى مع قواعد التجارة الحرة التي تعزز المنافسة، ولهذا يتهرب أي رجل أعمال من اتهامه بالاحتكار، وتبتعد أي شركة عن هذه الوصمة. لكن كيف يتم إثبات وجود الاحتكار؟ وهل كل من حقق أرباحا كبيرة يعد محتكرا، حتى لو كان بسبب الطلب الكبير على منتجاته وخدماته؟ وهل كل من قرأ المستقبل وتوجهات المستهلكين واستطاع أن يستثمر في الوقت الصحيح بشكل جعله صاحب اليد الطولى في الأسواق يوصف بالمحتكر؟ وإذا كان كذلك، فما الفرق بين الاحتكار والابتكار والحقوق الفكرية؟ لعل ما يواجه عمالقة التكنولوجيا في العالم من بحث وتحقيقات بشأن الاحتكار ودعوات الكثير بتفكيك هذه الشركات، يعيدنا إلى السؤال الأساس عن معنى الاحتكار كفعل إجرامي وعمل غير أخلاقي.

وهنا تواجه الشركات التكنولوجية العملاقة تهما بالاحتكار، لأنها وفقا لمقاييس الاحتكار بلغت حدا يشوبه القلق فعلا، فالأرقام التي نشرتها "الاقتصادية" أخيرا، تثبت أن القيمة السوقية للشركات السبع الكبار مجتمعة، وهي فيسبوك، وأبل، وأمازون، ونتفليكس، وجوجل، ومايكروسوفت، وتسلا، بلغت 9.6 تريليون دولار، أي ضعف الاقتصاد الياباني، ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وبما يعادل ربع قيمة شركات مؤشر ستاندرد آند بورز 500 الأمريكي.

كما حققت أمازون وحدها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2020، مبيعات بقيمة 100 مليار دولار، وارتفعت أسهمها العام الماضي 62 في المائة. أما "أبل" فزادت قيمة السهم 70 في المائة، وكانت عائدات شركة ألفابت 162 مليار دولار، أي أكثر من الناتج القومي الإجمالي للمجر، وإجمالي أرباح شركة أبل 67 مليار دولار، أي ما يوازي إنفاق المملكة المتحدة، خامس أكبر اقتصاد في العالم على الدفاع والنقل.

كل هذه المعطيات والكثير غيرها، تؤكد وجود الاحتكار كمفهوم اقتصادي، لكن هل هذا المفهوم أصبح موجودا قانونيا بحيث تتم معاقبة هذه الشركات على هذه النتائج؟ قانونيا، رفضت محكمة فيدرالية أمريكية الدعوى المقدمة من لجنة التجارة الاتحادية، تتهم فيها عملاق شبكات التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بالاحتكار والاستحواذ على الشركات الناشئة، والسبب هو فشل اللجنة في إثبات أن الأرقام التي تحقق مفهوم الاحتكار اقتصاديا نتجت فعلا عن تصرفات احتكارية وعن استغلال للموقع المهيمن، وأنها تمنع الشركات الناشئة من الدخول والبقاء في السوق، لكن كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ بمعنى، كيف يمكن لصناعة تحقق كل هذه المليارات ألا تجذب شركات جديدة عملاقة للدخول، إلا إذا كانت هذه الشركات العملاقة تستغل نفوذها لمنع مثل هذا الدخول بطريقة غير مباشرة، مثل الاستحواذ الشرس، ومثل تشجيع سن قوانين تمنح بعض الامتيازات، كما يتم سن تشريعات تعزز الملكية الفكرية لهذه الشركات التي تستطيع شراء كل الحقوق والاستئثار بها، فهل ما يحدث في مصلحة المستهلك؟ هناك نغمة مختلفة من بعض الخبراء تصف الاحتكار الذي حققته هذه الشركات بأنه بفعل النجاح المتواصل لها، وأن ذلك يحمل في طياته كثيرا من الإيجابيات والمنافع للاقتصاد العالمي وللمستهلكين، وبأن الطلب على منتجات هذه الشركات ليس بفعل الاحتكار، بل بقوة الطلب على المنتجات والخدمات ذات الجودة، فهذه الشركات أكثر فهما للواقع الاقتصادي من الشركات التقليدية، خاصة فئة الشباب، وهي تعمل كحلقة وصل بين البشر والاحتياجات التكنولوجية المتنامية.

كما أن هذه الشركات تدعم فعليا كثيرا من الشركات الصغيرة العاملة في أبحاث الذكاء الاصطناعي، التي تتطلب استثمارات كثيفة تعجز الحكومات عن توفيرها دائما، فقد أنفقت شركة أمازون 20 مليار دولار على الاستثمار والاستحواذ، أيضا على ما لا يقل عن 128 شركة ناشئة للذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم، أسهمت تلك الاستثمارات في تقدم ملحوظ في مجال السيارات ذاتية القيادة.

لذا، فإن احتكار "أمازون" يعود على العالم بخير كثير وليس عملا بائسا لتعظيم الثروات على حساب حاجة الناس، ولذلك فإن تطبيق قوانين الاحتكار وتفكيك شركة بحجم أمازون يعني التضحية بالابتكار والتقدم التكنولوجي الذي يأتي منها.

لكن المتمسكين بمخاطر الاحتكار يرون أن هذا المفهوم يتجاوز في أضراره ما كان يعرف أيضا إبان الثورة الصناعية ما قبل الرابعة. فإذا كانت هذه الشركات تقدم منافع للمجتمع، فإن مخاطر تعظيم الأرباح الناتجة بسبب الاحتكار - ولو من غير قصد - قد تتسبب في كارثة اقتصادية كبيرة فيما لو انفجرت فقاعة الأسهم لهذه الشركات كما حدث في أوقات سابقة، وهذا الحجم يجعل مواجهة طموح هذه الشركات أمرا بالغ الصعوبة.

فالاحتكار لم يعد ضارا من خلال التأثير في الأسعار ومنع الدخول، بل من خلال موقع ونفوذ مهيمن، وقوة لم يسبق للعالم أن واجهها مع شركات عالمية من قبل، كما أن الصراع بين شركات التكنولوجيا في العالم قد يؤجج صراعا عنيفا بين الدول المهيمنة، أو لمنعها من السيطرة، لذلك يبقى الاحتكار آفة اقتصادية يصعب تحملها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي