الاقتصاد الرقمي وتدفق البيانات «2 من 2»

قد يجادل كثير من المراقبين بأن الولايات المتحدة تقترب الآن من الموقف الأوروبي. حيث بدأت لجنة التجارة الفيدرالية ووزارة العدل الأمريكية في متابعة إجراءات مكافحة الاحتكار ضد بعض الشركات الرقمية الكبرى. وفي تغريدة، رحب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بلوائح الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، وأكد استعداد أمريكا للعمل مع دول أخرى ذات عقلية مشابهة في تنظيم هذه التقنيات. وأخيرا، نشهد أيضا تقدما محتملا فيما يتعلق بضرائب الخدمات الرقمية، حيث تستكشف الولايات المتحدة سبل التعاون العالمي بشأن ضرائب الشركات بصورة أكثر عموما.
حسنا، أنا أميل إلى التفاؤل، سواء كان ذلك بطبيعتي أو باختياري، لأنني أرى أن المتشائمين لا ينجزون أي شيء أبدا. ولماذا يفعلون، إذا افترضوا أن الأمور ستصبح أسوأ غدا؟ لكن موقفي المتفائل ليس من أجل التفاؤل في حد ذاته. فهو يعكس الحقائق. حيث تجري تغييرات كبيرة داخل الولايات المتحدة ومن حيث الاعتبارات الجيوسياسية. وتشجعني حقيقة أنه في خضم المناقشات الدائرة حول الضرائب ومكافحة الاحتكار والخصوصية، أصبحنا بالفعل في مكان مختلف تماما عن الذي كنا فيه قبل بضعة أعوام. هذا لا يعني أننا سنتفق على كل شيء. لكننا نمهد الطريق لشيء جوهري حقا: التعاون بين الديمقراطيات.
تأمل معي هذا المثال الصغير، لكنه يوضح سبب أهمية تشكيل جبهة موحدة من الديمقراطيات في ظل تنافس الأنظمة الجاري في الوقت الحالي. في العام الماضي، قدمت الصين اقتراحا إلى الاتحاد الدولي للاتصالات كان من شأنه أن يقلب بنية الإنترنت رأسا على عقب، ما يجعلها أكثر مركزية وقابلية للتحكم فيها من قبل الحكومات. لحسن الحظ، اتفق عدد من الديمقراطيات على رفض هذا الاقتراح، وعلينا أن نحتفي بذلك. لكن ستظل هناك حاجة إلى اليقظة المستمرة لدرء هذه التهديدات التي تواجه النظام، ولإظهار أن الديمقراطيات بحاجة إلى مساعدة ديمقراطيات أخرى من أجل تلبية احتياجات مواطنيها. لنضع تفاؤلك تحت الاختبار. استنادا إلى فكرة الاتحاد الأوروبي بوصفه قوة تنظيمية عظمى عالمية. فقد ذكرت سابقا أننا نبدأ الفصل الثاني من الرقمنة. حيث تمحورت العشرة أعوام الماضية حول نمو الأعمال التجارية بين الشركات والمستهلكين. أما المرحلة التالية فهي متعلقة بالرقمنة الصناعية لقطاعات الصحة، والنقل، والطاقة، والزراعة، والخدمات العامة. والحق أن السلع والخدمات العامة تمثل مواطن قوة بالنسبة إلى أوروبا. كما أن أنظمة الطاقة المتقدمة للغاية لدينا قيد التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، ونحن متقدمون بالقدر ذاته في الزراعة. ثمة طلب قوي للغاية على الحلول التكنولوجية التي ستمكن هذه القطاعات من تطوير وتحويل ذاتها بشكل كبير في الأعوام المقبلة. وتحظى أوروبا بثقافة الصناعة وريادة الأعمال اللازمة لقيادة عصر الرقمنة هذا. لا شك أن أنواعا جديدة من الشركات الرقمية ستظهر من أجل التعامل مع جميع البيانات التي يجري إنشاؤها الآن. لكن كثير منها سيختص بالتعاملات بين الشركات، لذلك لن نسمع عنها بالضرورة بقدر ما نسمع عن الخدمات التي قد نستخدمها على الهاتف الذكي كل يوم. مع ذلك، تشكل الأعمال التجارية جزءا أساسيا من كيفية عمل مجتمعنا، وستكون رقمنة الصناعات عملية مثيرة خصوصا في السياق الأوروبي. حيث يوجد عدد كبير من الأشياء التي لا يمكننا القيام بها في غياب التكنولوجيات الرقمية. على سبيل المثال، تعد مكافحة تغير المناخ أمرا يصعب تحقيقه دون أدوات رقمية. وأعتقد أن أحدث التقديرات تشير إلى أنه يمكننا السيطرة على 20 في المائة من الانبعاثات على مدى العشرة أعوام المقبلة باستخدام وسائل رقمية.
أخشى دائما هذا النوع من الأسئلة. لقد حدث كثير خلال العشرة أعوام الماضية، والشيء الوحيد الذي أراه بمنزلة خيط يجب أن نسترشد به هو النضال كي نجعل مجتمعاتنا أكثر شمولية. كانت الأزمة المالية عام 2008 مروعة في كثير من النواحي، لكن أحد أسوأ فصول تلك الأزمة كان تسريح العاملين وشعورهم بأنهم طردوا ليس فقط من وظيفة، لكن من مجتمعهم. فلم يجد كثيرون منهم مكانا يلوذون به، ونحن نتعامل مع تبعات هذا الأمر منذ ذلك الحين. عدت لتوي من قمة بورتو الاجتماعية التي استضافتها البرتغال، حيث رأيت رؤساء الدول والحكومات الأوروبيين، وأصحاب الأعمال، وقادة النقابات، ومجموعات المجتمع المدني يجتمعون معا للاعتراف بالحاجة إلى تأسيس مجتمع شامل للجميع ولا يضر بالنمو. ومن رؤيتي لهذا المشهد، أعتقد أن عديدا من الأشياء ستختلف تماما في غضون عشرة أعوام، وأننا سنحقق تقدما في مساعدة جميع الأفراد على الشعور بمزيد من الانتماء إلى المجتمع. ما يدفعني إلى النهوض من فراشي كل صباح هو مزاولة عملي المتمثل في بذل قصارى جهدي لحمل كل واحد منا على إدراك حقيقة مفادها أننا قادرون على الاختيار، وأن اختياراتنا كفيلة بإحداث الفارق. وأرى أن هذا الإدراك هو السبيل الحقيقي إلى التمكين. يجب أن يكون كل شخص قادرا على الشعور بأن ما يفعله يحدث فارقا، وينطبق هذا خصوصا في السوق. فعندما تكون السوق مفتوحة وتسمح بالمنافسة، يصبح لدى المستهلكين والمواطنين خيارات مختلفة، وبالتالي يمكنهم إحداث الفارق.
وبالمثل، في نظام حكومي، من شأن المساهمات الفردية أن تحدث الفارق. بالنسبة إلي، هذا التمكين هو الدافع الذي يحرك أفعالي، ويحدد ما أرغب في تحقيقه. وفي ظل الرقمنة، ربما نتمكن أخيرا من الوفاء ببعض الوعود التي نسمعها منذ عقود من الزمن فيما يتعلق بالصحة والتعليم وقضايا أخرى. هذه هي أمنيتي المتواضعة.
خاص بـ "الاقتصادية"
بروجيكت سنديكيت، 2021.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي