Author

شبح التضخم وشد اللجام 

|

 
"نميل إلى الاعتقاد"، هذه أكثر العبارات استخداما اليوم، ومن قبل شخصيات قيادية في مراكز القرار الاقتصادي حول العالم، لوصف الحالة الاقتصادية الراهنة. فلا شيء مؤكد، وإذا كان العالم اليوم يواجه شبح عودة التضخم المفرط، فإن الأسباب الكامنة خلف هذا الشبح القادم بسرعة، تجعل من الصعب التكهن بشكله وحجمه وطريقة مواجهته، ولهذا فإن القلق يسود قارات العالم أجمع.

ويتخوف الاقتصاديون من أن تكون موجة التضخم المقبلة في الصيف سريعة وقوية ومستدامة، بما يجعل تصرف البنوك المركزية لاحقا بطريقة رد الفعل قاسيا. وهو ما يمكن أن يضر بالتعافي الاقتصادي عموما، ويؤدي إلى موجة ركود جديدة قبل أن يتعافى الاقتصاد تماما من أزمة وباء كورونا.

في دول منطقة اليورو، ارتفع التضخم قريبا من 2 في المائة ليتجاوز أهداف البنك المركزي الأوروبي التي حددها، لكن مع تفاوت ووضع مقلق بين الدول الأعضاء ليصل إلى 3.1 في المائة في أستونيا.

وفي المملكة المتحدة، بلغ التضخم في نيسان (أبريل) 1.5 في المائة، ومن المتوقع استمرار وتيرة الارتفاع، لكن القلق الأشد جاء من بيانات التضخم الأمريكي، الذي ارتفع 4.2 في المائة خلال الـ12 شهرا المنتهية في نيسان (أبريل)، وهو أعلى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية.

ولا يشك أحد في أن أزمة كوفيد - 19 وما تسببت فيه من إغلاقات مع سياسات الدعم، مكنت الأسر من تحقيق ادخار عام كبير، ما يحفز اليوم على الشراء وبقوة مع عودة الاقتصادات العالمية إلى الانفتاح، كما أن وفرة النقد في البنوك تمكن أيضا من التوسع في الإقراض، وهو ما يحفز التضخم عموما بطريقة تقليدية.

ونظريا، من السهل التعامل مع هذا النوع من التضخم، من خلال تمكين البنوك المركزية من تعديل أسعار الفائدة، لكن هذا يعني شد لجام الطلب، فرفع سعر الفائدة قرار مناسب، لكن إذا كان البنك المركزي يدرك الأسباب الكامنة خلف التضخم وأنها - ببساطة - تتمثل في زيادة النشاط الاقتصادي، لكن تقارير اقتصادية حول العالم لها رأي آخر.

وقد أثارت أرقام مؤشرات خلال الفترة الماضية مخاوف الأسواق والمستثمرين مجددا من ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصادات الرئيسة، ما قد يدفع إلى تغيير السياسات النقدية بأسرع مما هو مقدر سلفا.

وعلى الرغم من أن الأسواق تتحسب منذ أشهر لموجة تضخم مرتفع هذا الصيف، مع خروج أغلب اقتصادات العالم من أزمة وباء كورونا بانتعاش اقتصادي قوي وسريع، إلا أن الأرقام الأخيرة جددت حالة الذعر بين المستثمرين.

ونشرت "الاقتصادية" خلال الأسبوع الماضي عدة تقارير بهذا الشأن، تفيد بأن الاقتصادات الكبرى بالكاد تخرج من عنق أزمة كوفيد - 19، إلى جانب عودة انتعاش أسعار الطاقة إلى مستويات ما قبل كوفيد، مع نقص في الرقائق الدقيقة والمنتجات الخشبية وكثير من المعادن حتى منتجات الجبن، فهل هذه هي الأسباب المباشرة لارتفاع التضخم؟ فارتقاع الأسعار لم يكن بسبب عودة النشاط الاقتصادي بشكل مفرط، ما يستلزم كبح جماحه، بل بسبب نقص الإمدادات، وإذا ما تم إصلاح أسعار الفائدة لكبح الطلب، فإن أزمة الإمداد قد تزداد عمقا، ولا سيما إذا كانت آثار أزمة فيروس كورونا مع ما صاحبها من دعم حكومي جعلت الناس أقل استعدادا للعمل، ما يؤدي إلى نقص العمالة وضغوط كبيرة على الشركات لرفع الأجور.

ما تخشاه الأسواق المالية عموما أن يكون السبب لعودة شبح التضخم هو التحفيز المالي والنقدي المرتبط بالوباء الذي أدى إلى تفاوت واسع في التعافي الاقتصادي بين دول العالم، حيث تعافت الاقتصادات المتقدمة أسرع مما يجب، إلى درجة انعدام التوازن المحتمل بين الطلب الجامح والعرض المقيد.

وفي مسار مختلف تماما، هناك من يعتقد بأن الاتجاه الحالي لارتفاع الأسعار لا علاقة له بأزمة كوفيد - 19، ودون سياسات التحفيز الاقتصادي، إنما باتجاهات الأجور العالمية، التي بدأت بالارتفاع في معظم الدول ذات الأجور المنخفضة وتتركز فيها المصانع العالمية بعد موجة العولمة التي تم خلالها نقل ضخم لمصانع إنتاج السلع من الاقتصادات ذات الأجور المرتفعة إلى الدول ذات الأجور المنخفضة، مثل الصين وأوروبا الشرقية، لكن هذا تغير الآن كما يشير بذلك تقرير نشرته "الاقتصادية" عن كبير الاقتصاديين السابق في بنك إنجلترا، حيث أصبح عدد سكان هذه الدول على وشك الانخفاض لأول مرة منذ عقود، كما أن عددا أقل من العمال الجدد يدخلون في القوى العاملة العالمية في وقت تتقلص فيه القوى العاملة في الاقتصادات المتقدمة مع تقدم السكان في العمر، وهذا في مجمله فرض ضغوطا على الشركات لرفع الأجور، ما يزيد من الضغوط التضخمية الأساسية.

ويرى اقتصاديون أن التضخم المرتفع عامل خطر كبير للاقتصاد، وكذلك الانكماش، لكن المرجح أن يسهم تباين اتجاهات التضخم بين الدول المتقدمة والاقتصادات الناشئة في إبقاء مسار نمو الاقتصاد العالمي منخفضا، كما أن اختلاف مسارات الانكماش والتضخم المرتفع ستكون لهما آثار عكسية.

في مقابل كل هذا، هناك من يرى الأمور طبيعية، فلا يزال الاستثمار العام، واستثمارات العمال والأسر والمجتمعات، قادرة على تخفيف ضغوط الشراء، وهي آليه طبيعية يمكن أن تعمل الآن دون الحاجة إلى التدخل، وهذا ما تقوله كبيرة الاقتصاديين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أنه "من السابق لأوانه دق ناقوس الخطر بشأن التضخم"، خاصة أنه لا يزال هناك ركود كبير في سوق العمل، كما أن مشكلات ارتفاع الأجور لنقص العمال يمكن معالجتها من خلال تعديلات في تشريعات التقاعد، والعالم لا يزال ينتظر أجزاء أخرى من آسيا وإفريقيا للاندماج في الاقتصاد العالمي كما فعلت الصين، وهذا التذبذب في فهم أسباب التضخم القادم وفهم جوهره، يؤجل بشكل متعمد القرار المنتظر، فالجميع يراقب و"يميل إلى الاعتقاد".

إنشرها