خطة الإصلاح الإيطالية .. صدمة كهربائية لاقتصاد شبه متعثر
من المقرر أن تحصل إيطاليا ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو على قروض ومنح بقيمة 233.5 مليار دولار حتى عام 2026.
مع هذا فإن السؤال الذي يطرحه معظم خبراء الاقتصاد في إيطاليا والاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، يتمحور حول مدى كفاية تلك المنح والقروض لإنقاذ الاقتصاد الإيطالي من أزمته، وقدرتها على مساعدته على كسر الدائرة المفرغة للجمود الاقتصادي الذي تعانيه إيطاليا خلال العقدين الماضيين.
آراء الإيطاليين تتباين بشدة حول المستقبل الاقتصادي لبلادهم، فوصول ماريو دراجي محافظ البنك الاقتصادي الأوروبي سابقا وأحد ألمع الخبرات الاقتصادية الإيطالية والدولية إلى رئاسة الوزراء، أثار لدى الإيطاليين والأوروبيين على حد سواء موجة من التفاؤل بشأن إمكانية خروج البلاد من أوضاعها الاقتصادية المتردية.
تعزز هذا الشعور بالتفاؤل بعد أن تعهدت حكومته بمجموعة من الإصلاحات ضمن خطة شاملة للتعافي الاقتصادي، تتضمن إنفاقا حكوميا لتجديد المباني، خاصة أن المباني الإيطالية تتسم بالقدم وتفتقر إلى كفاءة استخدام الطاقة، وخططا أخرى لتحديث وسائل النقل العام واتصالات الإنترنت. وقد تعهد ماريو دراجي رئيس الوزراء باستخدام المنح والقروض لتحديث البنية التحتية وجعل إيطاليا "دولة للشباب".
وترتكز خطة الحكومة الإيطالية الحالية على تشجيع الاستثمار العام ومزيد من الحوافز لدفع القطاع الخاص إلى مزيد من الاستثمارات، ووضعت الحكومة مجموعة من المهام الاستثمارية نصب أعينها، منها الرقمنة والاقتصاد الأخضر وإعطاء الأولوية للمرأة، فمن بين كل ثلاث نساء في إيطاليا هناك امرأة عاطلة، كما أن إيطاليا لديها أدنى تمثيل للمرأة في أوروبا في القوى العاملة بنسبة 53 في المائة.
جانب آخر عزز الشعور الوطني بالتفاؤل لدى قطاعات من الخبراء الاقتصاديين في إيطاليا، ينبع أساسا من موقف الاتحاد الأوروبي المساند وبقوة لخطة الإصلاح الاقتصادي الإيطالية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من جهود جماعية داخل الاتحاد لتطوير قدراته الاقتصادية، ليواصل المنافسة في ظل التحديات المتصاعدة التي يواجهها من الصين والولايات المتحدة والاقتصادات الناشئة. تلك المساندة الأوروبية تهدف إلى تعزيز الخطوات الإيطالية للتغلب على نقاط الضعف الهيكلي والعوامل المثبطة للنمو الاقتصادي الهزيل منذ عقدين من الزمن.
وباتت القناعات السائدة الآن لدى الإيطاليين بأن الفرص التي ستتمكن إيطاليا من تقديمها للأجيال القادمة تعتمد على نجاح خطة الإصلاحات والتدابير الخاصة بتعافي الاقتصاد الوطني.
يشير بيرون سوفت أستاذ الاقتصاد الأوروبي في جامعة لندن إلى أن إيطاليا كانت أول دولة في أوروبا تتعرض لوباء فيروس كورونا، ما تسبب في أسوأ ركود تمر به في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما لقي أكثر من 120 ألف إيطالي حتفهم بسبب وباء كورونا، وتلك أكبر خسارة في الأرواح في أوروبا بسبب الفيروس.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "انكمش الاقتصاد الإيطالي بنسبة تقارب 9 في المائة العام الماضي، مقارنة بانخفاض بنسبة 6.2 في المائة في الاتحاد الأوروبي في المتوسط، وفقد مليون شخص وظائفهم، كما أصاب الوباء معدل المواليد المتضائل بالفعل في إيطاليا، وعدد الأطفال المواليد في العام الماضي كان أقل من أي وقت مضى، وحاليا يعيش نحو 10 في المائة من السكان في فقر مدقع، لكن مع إحراز تقدم في التطعيمات وإعادة فتح الاقتصاد فإن التوقعات تشير إلى تعاف متسارع للاقتصاد وتوسع في الناتج المحلي الإجمالي بما يراوح بين 4 و4.5 في المائة هذا العام و4.8 في المائة العام المقبل".
هذا الوضع من التحسن يوفر أرضية ملائمة للقيام بعملية الإصلاح الاقتصادي وتنفيذ الخطة الحكومية، لكن حتى مع الدعم الأوروبي فإن عملية الإصلاح لن تسير بسلاسة أو سهولة، فالدين العام يقف عند نحو 160 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وهذا أعلى مستوى يصل إليه منذ الحرب العالمية الثانية، وستتطلب عملية الإصلاح سحب تدابير الدعم الحكومي للأسر والشركات، وبالطبع يجب أن يكون ذلك تدريجيا لتعزيز الوضع الاقتصادي بشكل كاف وتقليص حالة عدم اليقين بشكل كبير.
بالطبع لا يقف الأمر عند قروض ومنح لإيطاليا أو حتى برنامج إصلاح اقتصادي نال ثقة البرلمان، فخطة الإنفاق الحكومي الإيطالية تبلغ 315 مليار دولار ما يعني وجود فجوة تقارب 82 مليار دولار بين المنح والقروض التي ستحصل عليها حكومة ماريو دراجي ومقدار الإنفاق العام المطلوب لإصلاح الاقتصاد، والتساؤل الطبيعي كيف ستسد الحكومة تلك الفجوة؟
كما أن خطة الإصلاح تتضمن في جزء منها إعطاء صدمة كهربائية لاقتصاد شبه متعثر، وهو ما يتوقع أن يواجه برفض قطاعات اجتماعية وتذمرها من المضي قدما في تلك الخطة.
وتعلق لـ"الاقتصادية" صوفيا أندرسون الخبيرة الاقتصادية قائلة "الإنفاق هو أسهل جزء في خطة الإنعاش الاقتصادي لحكومة دراجي، لكن المهمة الكبرى تكمن في الجوانب المتوسطة وطويلة الأجل في الخطة، فإعادة تأسيس الاقتصاد الإيطالي بطريقة تدعم النمو، ستتطلب إصلاحا هيكليا مؤلما سيطول العدالة الاجتماعية والإدارة العامة والمنافسة والروتين وضرب مراكز البيروقراطية، وسيكون ذلك أصعب بكثير من مهام الاستثمار التي تحددها الخطة، كما سيكون على الحكومة مواجهة الاختلالات الوظيفية والتهرب الضريبي الذي يشل الاقتصاد الإيطالي، وهذا كله سيواجه بتحركات اجتماعية ربما تفشل خطة الإصلاح أو تعوق تطبيقها".
تحمل تلك الملاحظات جوانب منطقية، فالسخط السياسي من خطة الإصلاح لدى بعض المراكز الاقتصادية بدا واضحا خلال مناقشات البرلمان، لكن إيطاليا لا تمتلك خطة بديلة، والأكثر أهمية أن أوروبا لن تسمح بفشل ماريو دراجي رئيس الوزراء.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور جون مارلو الاستشاري في اللجنة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، "إذا فشلت خطة الإصلاح الاقتصادي في إيطاليا فهذا إعلان بأن السياسة المالية الأوروبية ستفشل أيضا، وإذا فشلت الخطة الإيطالية فإن خصوم الاتحاد الأوروبي سيحصلون على الطاقة الضرورية لإعادة تنشيط القضية التي عرضوها في المحكمة الدستورية الألمانية لإعلان عدم قانونية صندوق الاتحاد الأوروبي للتعافي من الأوبئة البالغ 750 مليار يورو، وروما هي المستفيد الأكبر من هذا الصندوق".
يعلم صانعو السياسة الاقتصادية لإيطاليا أنه عندما ضرب فيروس كورنا البلاد لم يكن اقتصادها قد تعافى من الأزمة المالية، ويعلمون أيضا أن إيطاليا كانت الدولة الأوروبية الوحيدة التي أخفقت في الخروج من الأزمة المالية، فمن عام 1999 إلى عام 2019 توسع الناتج المحلي الإجمالي لإيطاليا بنسبة 7.9 في المائة، مقارنة بنمو يراوح بين 30 و45 في المائة لألمانيا وفرنسا وإسبانيا، وتقلص الإنتاج الاقتصادي في إيطاليا بنسبة 6.2 في المائة بين عام 2001 و2019، بينما كان باقي الدول الأوروبية في نمو.
وسط تلك التحديات وإجمالي دين يتجاوز ثلاثة تريليونات دولار فإن إيطاليا تسير على الحافة. القروض والمنح التي ستحصل عليها ليست أكثر من فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم قدرتها الاقتصادية وتعظيم إمكاناتها.
والمشكلة أن خطتها للإصلاح عمرها يتجاوز عمر حكومتها الائتلافية، فالبرلمان الإيطالي تنتهي مدته عام 2023، بينما الخطة الاقتصادية للحكومة تمتد حتى عام 2026، وهو ما يعني أن إيطاليا بقدر ما هي في حاجة إلى الدعم الأوروبي، فإنها في حاجة أكثر لإيجاد وعي شعبي جماعي وائتلاف واسع يضم أكبر قدر من القوى الاقتصادية والاجتماعية، لضمان نجاح خطتها للإصلاح الاقتصادي، وإلا فإن القروض والمنح التي ستحصل عليها ربما تكون قبلة الحياة الأخيرة التي تتلقاها.