Author

النقود المشفرة .. عملة مضاربية أم واقع جديد؟

|
متخصص في المعاملات المالية، مستشار في المالية الإسلامية ـ الجامعة السعودية الإلكترونية
في المراحل التي تطور فيها الإنسان فيما يتعلق بالمعاملات، تم ذلك بتحول كبير في كل مرحلة، وذلك بالانتقال إلى حالة مختلفة من النقود، حيث بدأ الإنسان بالمبادلات السلعية، ومن ثم استخدم الذهب والفضة في المبادلات لمكانتهما في نفوس الناس ولعدم تغيرهما مع الوقت، ولوجود كمية كافية يمكن أن يستخدمها الإنسان في احتياجاته وأخرى يمكن أن يستخدمها كنقود. واستمر ذلك فترة طويلة من الزمن، تخللها استخدام أدوات أخرى بشكل غير مستقر، مثل النحاس والجلود، إلى أن ظهرت النقود الورقية التي ما زلنا نتعامل بها مع التوسع في طرق تداولها، إلا أن هذه النقود الورقية اختلفت كثيرا عن طبيعة النقود السلعية والمعادن النفيسة، حيث إن قيمتها تعتمد على قوة مصدرها ونفوذه وقدراته الاقتصادية، كما أن تنوعها كبير، حيث إن كل دولة في العالم تقريبا لديها عملة خاصة بها.
اليوم، نشاهد الحركة الكبيرة للنقود بصورة مدهشة، خصوصا خلال الفترة التي تزامنت مع الجائحة. واليوم، أصبحت تتداول بشكل أكبر بعد توجه دول العالم إلى تخفيف إجراءات الإغلاق والتوصل إلى لقاحات فاعلة بدأت تنتشر بشكل واسع حول العالم، إضافة إلى أن مختلف الأصول حول العالم والأوراق المالية، شهدت ارتفاعات ومضاربات نتيجة للتيسير الكمي الذي يضخ بصورة هائلة لاستعادة توازن الاقتصاد بعد الجائحة، وانخفاض تكلفة التمويل بسبب انخفاض معدل الفائدة عالميا بغرض تنشيط الأسواق، إلا أن هذه الأموال تتدفق على الأصول والأوراق المالية لتشهد تضخما كبيرا وملحوظا حتى في الدول المتقدمة اقتصاديا.
في هذه المرحلة، دخلت العملات المشفرة طرفا في هذا التضخم الكبير في الأسعار لأدوات يصعب التنبؤ بمستقبلها، ففي الوقت الذي يرى خبراء أنها فقاعة ستزول يوما ما، نجد أن كثيرين يعولون عليها لتحقيق أرقام فلكية، فهي أداة مضاربية بامتياز لا تختلف عن نماذج من الأسهم التي حققت أرقاما خيالية، رغم أنها أصول صغيرة جدا، بسبب ميل كثير من المضاربين إلى البيع والشراء فيها بصورة في كثير من الأحيان لا أخلاقية بغرض لفت نظر البعض وجذب مزيد من رؤوس الأموال إليها، ومن ثم تحقيق مكاسب كبيرة من هذه المضاربات، ثم يتلاشى الاهتمام بهذه الأسهم مع تحقيق البعض مكاسب كبيرة، والآخرين خسائر هائلة.
اليوم، تظهر العملات الرقمية لتعلب دورا مضاربيا كبيرا حول العالم، فالبعض ينظر إلى العملات الرقمية على أنها أصبحت مستقبل العالم، وسيتم التحول إليها كوسيط للمبادلات، في حين أن طريقة إنشائها وعملها لا يسمحان فعليا بذلك، حيث لا ترى فيها البنوك المركزية أي معنى يمكن أن يتحقق من خلاله واحدة من وظائف النقود التي يجب أن تكون مجتمعة موجودة في أي أداة يمكن استخدامها كنقود، فلا يوجد اعتراف بها لشراء السلع والمبادلات، ومن الصعب استخدامها كأداة للادخار، كما أنها لا تستخدم لتقييم الأصول، إضافة إلى أنها لا تستخدم كوسيلة للدفع الآجل، رغم أن شركة مثل شركة تسلا لصناعة السيارات الكهربائية أعلنت أنها ستقبل شراء سياراتها ببعض هذه العملات ثم تراجعت، ما أحدث ارتباكا لهذه العملات.
ولذلك، فمن الصعب حاليا الاعتماد على العملات الرقمية ما دام أنها لا تحقق أي وظيفة للنقود، والعملات الرقمية أو المشفرة عمليا ستكون شكل العملات عليها مستقبلا مع بعض التحسينات وإصدارها أو قبولها من قبل الدول لتكون وسيلة للمبادلات، فهي تسهل عملية المبادلات بشكل كبير، وقوة تشفيرها يمكن أن تحد من عمليات التزوير، ووجودها في منصة إلكترونية يمكن أن يسهل عملية متابعة أي خلل أو اختراق يمكن أن يتم لها مقارنة بعمليات التزوير التي تحدث للعملات الورقية، كما أننا عمليا نعيش مرحلة ما قبل العملات الرقمية، حيث الاستخدام الرقمي للعملات الحالية، الذي سهل التعامل بشكل كبير، وقد تصدرت هذه العملات بعض الشركات العملاقة التي تقدم خدمات متنوعة وتحظى عملاتها بقبول محدود نسبيا.
الخلاصة، إن العملات المشفرة اليوم لا تحقق وظائف النقود والاستثمار فيها، وقد تكون أشد أشكال المضاربة باعتبار أنه لا يوجد أي أصل يرتبط بها حاليا وتعتمد بشكل كبير على رغبة المضاربين في شرائها، إضافة إلى عمليات مشبوهة تتم من خلالها، إلا أن العملات المشفرة قد تكون هي العملات المعتمدة مستقبلا مع وجود تحد أن الدول الأضعف اقتصاديا قد لا تتمكن من فرض وجودها في هذا الفضاء الرقمي، لأسباب منها الضعف في القدرات التقنية، وميل مجتمع تلك الدول إلى التداول بالعملات الأكثر استقرارا.
إنشرها