Author

تباين الممارسات والعزلة المعرفية

|
تتفاوت الممارسات الإدارية بين المنظمات بشكل كبير، ومن يحاول النظر والإحاطة بدرجة التفاوت وطبيعته سيصل إلى مشاهدات لافتة تستحق التوقف. منها ما يرتبط بحجم المنظمة، قد نقول مثلا إن المنشأة الأكبر حجما أكثر تطورا وإمكاناتها أكثر اتساعا، لذا نجد أن الممارسات تتطور بها بشكل أفضل عن مثيلاتها الأصغر حجما، أي: إن الأصغر متخلف بطبيعته. وقد يقول آخر، إن المنشأة الأصغر أقرب لتحقيق السيطرة والتأثير، لذا رؤية النتائج أسهل وأكثر واقعية، إذن هي متطورة بشكل أسرع بالضرورة. من ينظر إلى اختلاف القطاعات ير أن بعضها متأثر بطبيعة القوى المؤثرة فيها، فمفاهيم الكفاءة وممارستها أمر دارج وطبيعي في المنشآت الهندسية والصناعية، بينما قد تكون بعض هذه المفاهيم أشبه بالألغاز في غيرها من المنظمات. ومثل ذلك، الاختلاف بين مستويات الجودة بين المنشآت الصناعية والطبية وبين من يشبهها حجما، لكن لا يرتبط بالضرورة بفشل ذريع قابل للتحقق بخطأ واحد جسيم، أو بمستفيد لن يسامح في مستوى الجودة المقدمة له.
إدارة المنظمات هي مزيج بين إدارة الأشخاص والأنظمة والثقافة، ومع اختلاف ممارساتها إلا أنها تتشابه إلى حد كبير، خصوصا في المبادئ والأدوات المتاحة القابلة لإعادة الاستخدام. الوقت، الذي يصل إلى الأعوام وربما العقود، حتى تستقطب فيه الممارسة من منظمة إلى أخرى هو خسارة كبيرة وهدر ضخم للقدرات والإمكانات الممكنة لصنع القيمة. لكن كيف تنتقل هذه الممارسات من مكان لآخر؟ هناك عدة قنوات مختلفة يحدث بها هذا الانتقال الإيجابي. أولها المعرفة التي تصبح معرفة مكررة موجودة في المحتوى العام، وربما يأتي بعد ذلك بشكل أكثر تركيزا ما ينتقل ويتداول عن طريق القنوات المهنية التي تصمم وتؤطر وتشارك الأنظمة والمعايير والإرشادات وأفضل الممارسات.
ثم يأتي بعد ذلك انتقال العقول وتناقلها بين المنظمات، وهذا يعمل ما هو أشبه بأثر حبوب اللقاح التي تنقلها الرياح بين الأشجار والأزهار، فكل موظف مؤهل ينتقل من منظمة لأخرى يفتح بابا جديدا من النقل المعرفي العملي والمفيد. وهناك الدور الذي تقوم به بيوت الخبرة والمستشارون الذي يشيدون نماذج أعمالهم على فكرة إعادة بناء الممارسات نفسها، وتعزيزها وتطويرها من منظمة لأخرى.
ولو نظرنا إلى طبيعة الممارسات المتباينة التي نتحدث عنها هنا سنخرج بقائمة طويلة من أعمال الإدارة التي قد تشمل كل شيء، من برامج إدارة الأداء والأفراد إلى ما يرتبط بتطوير وتنمية نماذج الأعمال وما يتبع ذلك من تحسينات على الممارسات التشغيلية والمالية، نحن هنا نتحدث من أعلى قمة العمل الاستراتيجي إلى أدنى التفاصيل الفنية التي يمكن تدويرها والاستفادة منها. كل زاوية من هذه الزوايا ينطبق عليها مفهوم المخاطرة المرتبط بـ "إعادة اختراع العجلة".
من أمثلة الأسئلة التي تطرح باستمرار التي ستشاهد في إجاباتها تباينات واسعة شاسعة: لماذا لا تستفيد منظمات الخدمات من ممارسات الأداء التشغيلية التي تنفذها المصانع؟ ولماذا لا تنتشر ممارسات إدارة الجودة الطبية في المنظمات غير الطبية؟ ولماذا لا تستخدم أدبيات وفاعلية التعامل مع العملاء عند شركات السلع الاستهلاكية سريعة الحركة من كل شركة أخرى تتعامل مع العملاء حتى لو لم تقدم سلعا استهلاكية؟ ولماذا لا تتعلم المنشآت التي تتعامل وتحفز بالحضور والبصمة من غيرها التي تتعامل بالأداء والإنجاز؟ ولماذا لا تتمتع المنشآت الكبرى العتيقة بمرونة جيدة مثل المنشآت الأحدث؟ الحجم ليس سببا لتفادي المرونة بل ربما سببا للبحث عنها.
فهمنا لأسباب تباين الممارسات الإدارية والفنية بين المنظمات قد يوضح جوانب من العزلة المعرفية التي تحيط بنا دون أن نشعر. التأثير هنا تأثير تدويري loop effect، فالعزلة تسبب التباين والتباين يقود مزيدا من العزلة. الخسائر كبيرة بلا شكل، أولها الوقت المستغرق لاكتشاف وتجربة ممارسة تنظيمية جديدة ملائمة. التأخر في معالجة العزلة ونقل الممارسة قد يكون سببا للخروج من السوق أو زوال المنظمة وهو أمر مشاهد وأكيد.
العزلة المعرفية هنا تسبب تحديات تطبيقية أخرى، في وجود العزلة تصبح محاولات التطبيق أكثر صعوبة لأن الممارسين الميدانيين، أو فريق التغيير، سيواجهون مشكلة بناء الثقة في أمر متأثر بتلك العزلة، فلا ورقة تشرحه ولا مجتمع مختص يتحدث عنه ولا منظمات تتبعه بممارسة مؤطرة بشكل جيد. الأفراد أنفسهم يتأثرون فخبرة الفرد في منظمة كبرى متأخرة تنظيميا في جانب من هذه الممارسات هي خبرة ناقصة أو هشة لا تعكس حجم المنظمة أو قوتها التي تظهر من الخارج. من الأحاديث التي نسمعها كثيرا وتعكس لنا حجم التحدي هنا المسؤول الذي يقول: "ألا توجد طريقة عملية للقيام بهذا الأمر بفرصة نجاح عالية؟ أرجوكم انظروا إلى المنافسين والمنظمات الشبيهة بنا في السوق لتنفيذه بأفضل طريقة" لكنه في حقيقة الأمر يتحدث عن ممارسات أساسية جدا، فهو ومنظمته بعيدين كل البعد عن اللحاق بالممارسات الجيدة والمتطورة المبنية على تواصل معرفي محدث وعملي ومتقدم، وإنما جل همه أن يقوم بالعمل بالحد الأدنى المقبول، معظمهم لا يحقق ذلك حتى بعد طلبه.
إنشرها