موسم الخير
يثير البعض من غربيين ومسلمين شبهات حول تسبب الصوم في خفض الإنتاج والعمل الظاهرين في بلاد المسلمين خلال الشهر الكريم. ويورد هؤلاء بيانات وتحليلات مؤيدة لهذه الفرضية. وتقوم دول إسلامية كثيرة بخفض ساعات العمل خلال شهر رمضان بنحو ساعتين، ما ينتج عنه نظريا خسارة بعض ساعات العمل التي قد تسبب خسارة جزء من الناتج المحلي قدره البعض ما بين 2 و3 في المائة سنويا. وأعتقد أن نظرة هؤلاء سطحية لواقع الأمور وجاء جزء كبير منها بسبب التطبيق الخاطئ لهذه الشعيرة العظيمة من قبل كثير من المسلمين، ونتيجة لتحيز معتنقي المعتقدات المناوئة للتدين.
تظهر تأثيرات سلبية في سوق العمل والإنتاج في رمضان، حيث تتراجع ساعات العمل بين المسلمين في شهر رمضان، ويتكاسل بل يتقاعس كثير منهم عن أداء واجباته، وتتغير أوقات العمل والنوم، وتنقلب الحياة رأسا على عقب في كثير من الدول الإسلامية. وتقود التصرفات البشرية في رمضان، إلى خفض واضح في ساعات الإنتاج، واضطراب سير العمل ونظامه، وتأجيل القرارات والاجتماعات. وهنا ينبغي التأكيد أن الدين الحنيف فرض على الناس صوم رمضان، ولم يطلب منهم تغيير عاداتهم، وقلب الشهر إلى أشبه بشهر للمرح والسهر. إن الشهر الكريم بريء تماما من التصرفات البشرية الخاطئة التي قادت إلى عكس المرجو من الشهر الكريم وهو تحقيق مزيد من التقوى. وتسمو التقوى بالنفس البشرية، وتقوي صفات الأمانة وحسن الخلق، وتنشط أداء الوجبات الدينية والدنيوية، والحرص على الكسب الحلال، وبذل الخير، والتفاني في أداء الأعمال وإنجازها.
شهد شهر رمضان كثيرا من الإنجازات الإسلامية عبر التاريخ، حيث حدثت فيه غزوة بدر، وفتح مكة، في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يكن شهر عمل واجتهاد ومثابرة لما قام المسلمون الأوائل بهذه المعارك الفاصلة التي استغرق الاستعداد لها والقيام بها جهودا طويلة وكثيرة ومضنية. وشهد الشهر الكريم لاحقا معارك فاصلة عبر التاريخ، كمواقع القادسية وبلاط الشهداء وحطين وعين جالوت وفتح الأندلس. أما في العصر الحديث، فقد أبلى العرب بلاء حسنا في حرب رمضان 1973. ويؤثر رمضان بشكل إيجابي في المسلمين بشكل عام، حيث يهذب بدرجة أو أخرى تصرفاتهم، كما يصلح حال كثير منهم في الشهر، ما يساعد على تحسين أحوالهم ورفاهيتهم وأدائهم الاقتصادي باقي أعمارهم.
ما يثير التساؤلات ويتناقض ظاهريا مع مغزى الصيام ما تشهده بلاد المسلمين من زيادة ملموسة في الطلب على الأغذية والأشربة. وتدفع زيادة الطلب الموسمية في رمضان بأسعار عدد من السلع إلى الأعلى، ما لم تكن هناك وفرة في العرض. وتلقي الزيادة عبئا إضافيا على ميزانيات الأسر محدودة الدخل وتجبرها على تغيير أنماط الاستهلاك وخفضه على بنود أخرى. لهذا فإن على شبكات الحماية الاجتماعية في الدول الإسلامية أخذت هذا في الحسبان ودراسة إمكانية إضافة علاوة إضافية لمخصصات الفقر خلال الشهر الكريم. من جهة أخرى، يستفيد كثير من الناس اقتصاديا في هذا الشهر حيث يرتفع الطلب بقوة على بعض السلع، كالتمور في دول المسلمين، كما يرتفع الطلب على سلع معينة في كل بلد إسلامي بما يوافق عادات وطباع كل بلد في الأكل والشراب وغيرها. يرتفع الطلب أيضا على الملابس والأحذية والهدايا وبعض أنواع الترفيه في عموم دول المسلمين بسبب احتفالات الأعياد. وتزداد الحاجة أيضا إلى بعض السلع والمنتجات المرتبطة بالشهر الكريم حتى في بعض الدول الغربية التي يكثر بها المسلمون، حيث تشير إحدى الدراسات إلى زيادة الطلب على ما يسمى المنتجات الإسلامية بملايين الجنيهات الاسترلينية في بريطانيا خلال شهر رمضان.
لا ينكر أحد ظهور تأثيرات سلبية في الإنتاج والعمل في شهر رمضان في دول المسلمين. وهنا ينبغي التأكيد أن هذه التأثيرات جاءت نتيجة للتصرفات البشرية وليست جزءا من شعيرة الصوم. في المقابل، تظهر تأثيرات إيجابية قوية في الإنفاق وتوزيع الدخل خلال الشهر الكريم. ويرتفع في شهر رمضان إنفاق الأسر، ووتيرة أعمال الخير، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، ما يسهم في تحفيز الاقتصاد، ومحاربة الفقر، وإعادة توزيع الدخل بين شرائح المجتمع، ودعم السلام الاجتماعي. أما مسألة تراجع وتيرة العمل في شهر رمضان، فيمكن بسهولة التغلب عليها من خلال تغيير أوقات العمل والتأقلم مع الصوم، كما تستعد الأعمال عادة وبشكل مبكر لهذا الشهر بزيادة الإنتاج ومخزون السلع لمواجهة ارتفاع الطلب، ما يعني التعويض المبكر في الفترة السابقة وأحيانا اللاحقة لهذا الشهر الكريم للتراجع المتوقع خلاله. لهذا فإن أي تحليل للمتغيرات الاقتصادية في رمضان ينبغي ألا يركز فقط على تغطية فترة شهر رمضان وحده، كما يفعل بعض المحللين، وإنما كامل موسم رمضان الذي يشمل عدة أسابيع قبل رمضان وعدة أسابيع بعده. عموما، يعد المسلمون فترة الصيام أهم موسم من مواسم الخير التي تحل فيها البركة ويكسب فيها الأجر الذي لا يقدر بثمن حتى لو تراجعت دخولهم قليلا في هذا الشهر.