مستقبل النفط بين الأمانة والأماني

استشراف المستقبل في جميع المجالات المختلفة هو صناعة وليس ترفا فكريا، وهو إحدى الأدوات الفاعلة في رسم الخطط الاستراتيجية والتنموية، حيث إن الخطط الاستراتيجية لن تكتمل أركانها، وتتحقق أهدافها المرجوة إلا بوجود دراسات مستقبلية مبنية على بيانات ذات جدوى، يقوم بمعالجتها مختصون "غير مؤدلجين" ومهنيين، لنصل إلى معلومات ذات قيمة تغذى بها هذه الدراسات، فتنعكس إيجابا على مخرجاتها ودقتها. قطاع الطاقة في اعتقادي من أهم القطاعات التي يجب استشراف مستقبله نظرا لدوره المحوري والرئيس في تطور الأمم وفي حياة الشعوب، وعلى رأسه النفط الذي له استخدامات كثيرة، وتطبيقات مختلفة لا يسع المقال لسردها.
استشراف مستقبل النفط لا يصب في مصلحة المنتجين فحسب، بل يمتد ذلك إلى المستهلكين، وأرباب صناعة النفط والخدمات المساندة لها، بدءا من صناعة المنبع، ومرورا بالصناعة الوسيطة، حتى صناعة المصب وغيرها. هذه الصناعات والخدمات تقدر بمئات المليارات، ومستقبلها بلا شك مهم جدا للجميع دون استثناء أفرادا وشركات بل حتى دول، ما يحتم علينا تقصي المهنية في قراءة مستقبل هذا القطاع عموما، ومستقبل النفط على وجه الخصوص، بعيدا عن التوجهات السياسية والفكرية والأيديولوجية، هناك من يرى أن تصل أسعار النفط خلال العقدين المقبلين إلى أكثر من 150 دولار للبرميل، بناء على ارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب شح النفط سهل الاستخراج، وبسبب ضعف المعروض مقابل الطلب في ذلك الوقت. في المقابل هناك من يرى أن نجم النفط آفل لا محالة، وأن أسعاره ستصل إلى مستويات الـ 15 دولارا للبرميل خلال 30 عاما، متجاهلين في رأيي حقيقة أن النفط ليس حكرا على الطاقة.
مخرجات الدراسات الاستشرافية ليست مسلمات ذات طبيعة جامدة، بل يجب أن تتصف بالديناميكية ومتابعة المتغيرات، التي تطرأ على مدخلات المواضيع محل الدراسة دوريا لتقييمها وتقويمها، فالواقع قد يختلف بصورة كبيرة عن مخرجات هذه الدراسات الاستشرافية، لكن هذا لا يعني أبدا أن تبنى هذه المدخلات على الأهواء، وتصاغ وتفصل لخدمة أجندات معينة أو لخدمة مصالح مرحلية، وهنا تكمن الخطورة. ماريون كينج هوبرت الدكتور الأمريكي وعالم الجيولوجيا هو من أوائل من قال بفكرة ذروة الإنتاج، التي تسمى نظرية قمة هوبرت، حيث استشرف عام 1956 أن إنتاج النفط في الولايات المتحدة سيبلغ ذروته عام 1965، وكحد أقصى عام 1970.
بالعودة للأرقام التاريخية لإنتاج النفط في الولايات المتحدة، نجد أن توقع هوبرت كان صحيحا، حيث إن معدل إنتاج النفط بدأ بالهبوط بعد عام 1970 وكانت كمية الإنتاج في ذلك العام نحو تسعة ملايين برميل يوميا، ما عزز فرضيته، لكن هل ما زالت صحيحة وقائمة؟ الأرقام تقول غير ذلك، حيث إن الولايات المتحدة تنتج حاليا نحو أكثر من 11 مليون برميل يوميا. ماذا عن فرضية "النضوب الاقتصادي" هل هي مسلمة، وحقيقة ليست قابلة للتمحيص وإعادة التقييم، أم قد يجري عليها ما جرى على غيرها من فرضيات كثر؟ كثيرة هي الدراسات الاستشرافية والتقارير عن مستقبل النفط، لكن إن وزناها في ميزان المهنية والتجرد من أي مؤثرات أخرى تخدم مصالح شخصية، فقليل من قليل ما يمكن أن تحترمه وتحترم أساساته وإن اختلفت مع بعض مخرجاتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي