سنغافورة .. مستقبل أقل عددا وأكثر ثراء وقلقا من بنية تحتية مجهدة وتقلبات سياسية
عندما حصلت سنغافورة على استقلالها في عام 1965، كان متوسط عدد الأطفال الذين تقوم الأم هناك بإنجابهم، أربعة أطفال على الأقل.
وعدّ خفض معدل المواليد أمرا حتميا من أجل القضاء على الفقر، وتعزيز التعليم والرعاية الصحية، ونقل كثير من المواطنين إلى مساكن عامة ذات أسعار مناسبة، بدلا من العيش في الأبنية المزدحمة التي تستخدم كمحال تجارية ومساكن في الوقت نفسه، وهي المبادئ الخاصة برؤية رئيس الوزراء المؤسس، لي كوان يو، للدولة المدنية.
ويقول المحلل الاقتصادي دانيال موس في تقرير له نشرته وكالة "بلومبيرج" للأنباء، إنه بعد مرور نصف قرن على الاستقلال، صارت سنغافورة مختلفة تماما.
وبعد خفض معدل المواليد بصورة مطردة لأعوام، تراجع المعدل الإجمالي لخصوبة المرأة على مدار حياتها إلى مستوى قياسي بلغ 1.1 طفل في عام 2020، بحسب الأرقام الرسمية.
وتشير إحصاءات "بلومبيرج" إلى أن معدل إنجاب كل امرأة لـ2.1 طفل، يعد شرطا من أجل الحفاظ على استقرار عدد السكان في البلاد.
وتقدم الحكومة حاليا مكافآت لتشجيع المواطنين على الإنجاب، تصل إلى عشرة آلاف دولار سنغافوري (7430 دولارا أمريكيا)، كما يتم دعم تكلفة العلاج باستخدام تقنيات الإنجاب، بصورة كبيرة. وكان نائب رئيس الوزراء، هينج سوي كيت، قد تنبأ في أواخر العام الماضي بتخصيص مزيد من الحوافز.
ويوضح المحلل المتخصص في الاقتصادات الآسيوية، أنه يمكن تفسير انشغال حكومة سنغافورة أخيرا بإنجاب الأطفال، بأنه محاولة لمعالجة التصحيح المفرط للخطأ السابق، مضيفا أنه يرتكز أيضا على فرضية أن هناك مزيدا من المواطنين الذين سيعززون زيادة معدلات الإنجاب.
من ناحية أخرى، يقول الاقتصادي الأمريكي، بول كروجمان، إن دخل الفرد في سنغافورة يكاد يتضاعف في كل عقد من الزمان، خلال الفترة بين عام 1966 و1990، كما ارتفع إجمالي الناتج المحلي 8.5 في المائة سنويا.
وفي الوقت نفسه، ارتفعت نسبة السكان الذين تم توظيفهم، وعدد الأشخاص الذين حصلوا على التعليم الثانوي، بصورة كبيرة. وكتب كروجمان، "حتى دون الخوض في الممارسة الرسمية المتعلقة بحساب النمو، يجب أن توضح هذه الأرقام أن النمو في سنغافورة استند إلى حد كبير على تغييرات في السلوك حدثت لمرة واحدة ولا يمكن أن تتكرر".
وواجهت الطريقة الأكثر وضوحا من أجل التخفيف من حدة هذا التراجع، وهي جذب مزيد من المهاجرين، مقاومة دورية.
كانت البلاد قد احتضنت في الماضي، عمالا من الخارج، وذلك إما لتوفير مهارات معينة تحتاجها الشركات متعددة الجنسيات، أو للقيام بأدوار لا تحظى بالحماس من جانب السكان المحليين.
ويشار إلى أن هناك عددا كبيرا من الأجانب الذين يعملون في قطاعي البناء، وصناعات الأغذية والمشروبات.
ومع ذلك، في ظل ما شهدته البلاد من انكماش اقتصادي بسبب تداعيات تفشي جائحة كورونا، شدد الوزراء على ضرورة حفاظ أصحاب العمل على "الجوهر السنغافوري".
وتم تعزيز ذلك الاهتمام بالحساسيات المحلية منذ إجراء الانتخابات العامة في تموز (يوليو) الماضي، عندما حصلت المعارضه على مقاعد في البرلمان.
وكانت استراتيجية سنغافورة لعقود من الزمان تتلخص في التسويق لنفسها كجزيرة عالمية تتسم بالكفاءة، وحسن التنظيم، حيث صارت مكانا واضحا في منطقة معروفة بمعدلات النمو العالية جدا، لكن يسيطر عليها حالة من القلق بسبب البنية التحتية المجهدة، والتقلبات السياسية.
وتعجبت أجيال من زائري سنغافورة من سهولة استخدام المطار والطرق ومرافق الموانئ، وقد اختار الكثيرون تأسيس أعمالهم التجارية هناك. ويعد تكوين أسر صغيرة، نتيجة ثانوية - إلى حد كبير - لكل ذلك الازدهار.
وعلى عكس ما كان شائعا عن الأسر في سبعينيات القرن الماضي، يميل الوالدان حاليا إلى العمل. ويشكو السكان المحليون من الضغط العصبي، ما يؤكد على التقدم المهني، والضغط من أجل إلحاق أطفالهم بمدارس ثانوية جيدة وجامعة سنغافورة الوطنية. ويوجد في زاوية كل شارع تقريبا مكان تجاري يقدم أنشطة دراسية من خارج المنهج في مواد الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية.
ومن أجل الحصول على فهم حديث لمفهوم الاحتكاك الأسري أخيرا، سيكون من التدريبات الأكثر إفادة هي ممارسة نشاط التخييم في مركز "فورام" التسوق الواقع على طريق "أورتشارد رود"، وهو أحد أهم الشوارع المعروفة في البلاد.
وبعد ظهر أحد أيام الأحد، يمكن للمرء الانضمام إلى أعداد ضخمة من الأسر التي تقوم باصطحاب أبنائها (طفل أو طفلين لكل أسرة)، بين حصص تعليم فنون الباليه والموسيقى والتايكوندو وصالات الألعاب الرياضية.
ويقول المحلل الاقتصادي دانيال موس، إن السنغافوريين قد يكونون راضين عن إنجابهم لعدد أقل من الأطفال، لكنهم مستعدون - بكل تأكيد – لإنفاق كثير عليهم، مضيفا، "مرحبا بكم في المستقبل الأقل عددا والأكثر ثراء".