Author

إيرلندا تهدد اتفاق «بريكست»

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"سنغير من جانب واحد جزءا من اتفاق إيرلندا الشمالية في صفقة بريكست"
بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا
الأمور ليست هادئة على صعيد تنفيذ اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، كان هذا متوقعا منذ البداية، نظرا لبعض الفجوات في الاتفاق التي لم يستطع الطرفان الأوروبي والبريطاني سدها قبل الموعد الذي حدد للخروج النهائي أول العام الجاري. الأمر الذي يفسر وجود عشرات اللجان لحل المشكلات المقبلة بين الطرفين، فضلا عن اللجنة المشتركة الأكبر والأكثر حساسية التي تختص بحل مشكلات ما يمكن وصفه بالعقدة الإيرلندية. هذه العقدة هددت عدة مرات المفاوضات التي سبقت اتفاق "بريكست"، ودفعت عددا من المفاوضين البريطانيين على مدى ثلاثة أعوام للاستقالة، بل أوقفت هذه المفاوضات عدة مرات، ما أجبر بروكسل ولندن على تمديد مدة التفاوض، وهو ما أخر الخروج البريطاني المنشود.
المشكلة تتركز في أن الاتحاد الأوروبي وافق، ضمن الاتفاق العام، على أن تكون هناك فترة إعفاء من التفتيش على البضائع الواصلة إلى إيرلندا الشمالية من البر البريطاني حتى نهاية الشهر الجاري. وكما هو معروف وافقت بريطانيا على أن تكون هناك حدود بينها وبين الإقليم الإيرلندي التابع لها، وذلك كي لا تخرق اتفاق السلام التاريخي الذي وقع بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي قبل عقدين من الزمن، وينص على أن تبقى الحدود مفتوحة بين الإيرلنديتين. واتفاق السلام هذا، يعد خطا أحمر بالفعل لدى الولايات المتحدة الراعي الأهم له، حتى إن إدارة الرئيس جو بايدن هددت الحكومة البريطانية من مغبة المساس به، تحت طائلة عدم إبرام اتفاق تجاري بينها وبين لندن.
ورغم غرابة أن تقبل دولة ذات سيادة كبريطانيا بحدود بينها وبين أحد أقاليمها، غير أن بروكسل ولندن لم يجدا مخرجا إلا بوجود هذه الحدود التي وضعت في الواقع في البحر الإيرلندي الذي يفصل الجزيرة البريطانية عن الجزيرة الإيرلندية. الحالة غريبة بالفعل، لكن على المملكة المتحدة أن تحترمها طالما أنها وقعت على اتفاق "بريكست". وهذا الاتفاق يضمن للاتحاد الأوروبي الأحقية في تفتيش البضائع الواصلة إلى إيرلندا الشمالية من بريطانيا اعتبارا من أول الشهر المقبل، إلا أن الحكومة البريطانية قررت من جانب واحد أن تمدد فترة الإعفاء من التفتيش حتى الأول من تشرين الأول (أكتوبر). وهذا يعني أن لندن انتهكت الاتفاق بصورة واضحة، وفتحت المسار أمام معارك قضائية، لا أحد يعرف متى تنتهي، ولا إلى أين ستصل.
ولم تتردد المفوضية الأوروبية في التحضير لإطلاق إجراءين ضد المملكة المتحدة، لأن الأخيرة انتهكت الاتفاق عبر تأخير التدابير الجمركية مع إيرلندا الشمالية. بالطبع الأمور لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أنها ستتفاقم بالطبع إذا ما أصرت الحكومة البريطانية على خطوتها الأحادية هذه، وربما ستترك آثارها السلبية على ميادين أخرى من اتفاق "بريكست". ففي مثل هذه الحالات يتم اتخاذ إجراءات عقابية تجاه الجهة المنتهكة للاتفاقيات، مع ضرورة الإشارة إلى أن الاقتصاد البريطاني لا يتحمل بالفعل أي نوع من أنواع العقوبات التجارية، بينما لا يزال يعيش ركودا هو الأعمق منذ 100 عام، كغيره من الاقتصادات المتقدمة الأخرى. ومن المهم الإشارة، إلى أن الصادرات البريطانية للاتحاد الأوروبي تراجعت أصلا في الشهر الأول من هذا العام بأكثر من 40 في المائة، بسبب خروجها من الكتلة الأوروبية.
وفي حين تراهن بريطانيا على اتفاق تجاري واسع مع الولايات المتحدة لتعويض ما أمكن من التراجع التجاري بينها وبين الاتحاد الأوروبي، إلا أن واشنطن ليست مستعجلة كثيرا لهذا الاتفاق، بل وضعته في ذيل أولوياتها الدولية، فضلا عن أن إدارة بايدن أكدت في كل المناسبات أنها مهتمة أكثر بتطوير علاقاتها التجارية مع أوروبا أكثر من اهتمامها بعلاقات مماثلة مع بريطانيا. دون أن ننسى الجانب المتعلق بإيرلندا الشمالية الذي يمثل التزاما أمريكيا تاريخيا لن تتراجع الولايات المتحدة عنه. التنديد الأوروبي يتصاعد الآن ضد خرق لندن اتفاق "بريكست"، ويتفق كل الدول الأعضاء في الاتحاد على ضرورة عدم التهاون مع مثل هذه الخطوة، وذلك لقطع الطريق منذ البداية أمام أي محاولات مشابهة يمكن أن تقدم عليها بريطانيا مستقبلا في مجالات أخرى في علاقاتها مع بروكسل.
هناك مراحل ستسبق أي إجراءات أوروبية عقابية على بريطانيا، مثل مرحلة تسوية النزاعات التي يستعد الاتحاد الأوروبي لتفعيل آليتها، وبعدها محكمة العدل الأوروبية، التي من المرجح أن تفرض عقوبات على شكل غرامات هائلة. والمخاوف تكمن إذا ما استمرت الحكومة البريطانية بنهجها هذا في أن تنتقل الخلافات إلى ساحات أخرى تجمع الطرفين. فالموضوع الإيرلندي يبقى الأكثر حساسية في كل بنود اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكل الأطراف تعرف هذا تماما، وهو الموضوع الوحيد ضمن الاتفاق العام الذي يرتبط بالولايات المتحدة الراعي الذي استطاع أن يوقف حربا أهلية دامية إيرلندية دامت أكثر من ثلاثة عقود. وليس أمام لندن سوى احترام ما وقعت عليه وقبلت أن تقيم حدودا ضمن حدودها الوطنية.
إنشرها